mercredi 1 avril 2009


أحكام الطلاق

* تعريف: طلّق طلاقاً: تحرّر من قيْده، وطَلَقت المرأة من زوجها طلاقاً أي تحلَّلت من قيد الزواج وخرجت من عصمته.
وتعريف الطلاق شرعاً: إنهاء عقد الزواج الصحيح في الحال أو في المآل بالصيغة الدالة عليه.
* والطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
يقول الله تعالى: ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ويقول عز وجل: ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( .
وأما السنة فمنها: " أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلّق امرأته وهي حائض فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله r عن ذلك فقال: مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " . رواه البخاري وغيره.
وقد أجمع المسلمون على جواز الطلاق.
* والحكمة في مشروعية الطلاق، أنه نظام واقعي بشري وهو من محاسن الشريعة الإسلامية ومن دلائل واقعيتها وعدم إغفالها مصالح الناس في مختلف ظروفهم وأحوالهم، إذ طبيعة النفوس وما يعتريها من تغيّرات منها ما يؤدّي إلى المنافرة والخلاف وقد يستعصى حل الخلاف وإزالة النُّقْرة فيما بين الزوجين فتكون المصلحة في هذه الحالة هو وقوع الطلاق والفرقة، حيث لا يبقى مصلحة في النكاح ومقاصدهُ فتغلب مصلحة الطلاق، لأن في بقاء الرابطة الزوجية بعد فساد الحال بين الزوجين مفسدة ومضرة وسوء معاشَرة من غير فائدة.
وقد يكون العقم وعدم النسل بسبب من الزوج والمراة تتطلع إلى الذرية والنسل فتطلب الطلاق لتحقق أمنيتها مع زوج آخر.
* ولكن لماذا كان الطلاق بيد الرجل ؟
1- لأن القوامة بأصل الخلْقة للرجل، 2- ولأن الطلاق أمر خطير لأن فيه حل الرابطة الزوجية التي عقدت في الأصل لتكون طوال العمر، فلا يجوز التَّعجُّل في إنهائها، والملاحظ الذي يؤيده الواقع أن الرجل أكثر احتمالاً وصبراً على ضبط عواطفه وانفعالاته عند الغضب ودواعيه من المرأة، ولا يقدح في هذا أن بعض النساء قد يكنَّ أقْدر وأكمل ولكن هذا على النادر والأحكام تُبْنى على الغالب. وقد ذكرت بعض الزوجات لي بقولهن: لو أن الطلاق بيدنا ما كان في الغالب يوجد زواج دائم، فكلنا عندما نغضب نقول لأزواجنا: طلِّقنا .
3- الزواج والطلاق يحمّل الزوج تبعات مالية وهذا يحْمل الزوج على التأنِّي وعدم العجلة في تطليق زوجته. 4- وعموماً من حق المرأة التي لا ترضى بدوام العشرة مع زوجها أن تفدي نفسها بالخُلْع، أو أن تطلب وتشترط لنفسها عند عقد الزواج حق الطلاق بيدها.
* حكم الطلاق:
الطلاق تصرّف شرعي يقوم به الزوج، ولذلك كان فعله يعتريه الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة فهو يباح عند الحاجة لسوء خلق الزوجة ولسوء عشرتها، ويكره الطلاق في غير حاجة، ويحرم الطلاق في الحيض والنفاس، ويجب كطلاق المُولي بعد التَرَّبُّص أربعة أشهر من حلفه إذا لم يفيء، ويستحب الطلاق عند التفريط في حقوق الله تعالى كترك الصلاة، أو في التفريط في حقوق الزوج أو للبغض الشديد للزوجة.
* هل الأصل في الطلاق الحظْر أو الإباحة ؟ على قوْلين:
1- الأصل في الطلاق الإباحة: قال الإمام القرطبي في تفسيره: دلّ الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور. وقال ابن المنذر: ليس في منع الطلاق خبر يثبت. وقال ابن عابدين: إيقاع الطلاق مباح عند العامة لإطلاق الآيات وهو المذهب عند الحنفية وغيرهم.
والحجة لهذا الرأي قوله تعالى: ) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ( وقوله تعالى: ) فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( وذلك يقتضي إباحة إيقاع الطلاق، وأن الأصل فيه الإباحة لا الحظر. وقد طلق النبي r حفصة رضي الله عنها حتى نزل عليه الوحي بمراجعتها لأنها صوّامة قوّامة .
كما طلق غير واحد من الصحابة y .
2- القول الثاني أن الأصل في الطلاق الحظر، والحجة لذلك: أن الزواج عقد مسنون، بل هو واجب أحياناً، فكان الطلاق قطعاً للسنة. وتفويتاً للواجب، فيكون الأصل فيه الحظر، مباح نظراً إلى الحاجة إلا كان كفران نعمة وسوء أدب فيكره. وقال ابن تيمية: لولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه، ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحياناً، وإن الله يبغض الطلاق وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال الله تعالى: ) فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ( وفي الصحيح عن النبي r قال: " إن الشيطان ينصب عرشه على الماء ويبعث جنوده، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتي أحدهم فيقول: مازلتُ به حتى شَرب الخمر، فيقول: الساعة يتوب، ويأتي الآخر فيقول: مازلت به حتى فرّقت بينه وبين امرأته فيقبِّله بين عينيه ويقول: أنتَ أنتَ " وقال رسول الله r: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ". رواه أهل السُّنَن. وروى أبو داود حديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .

ما يقع به الطلاق [صيغة الطلاق]

* صيغة الطلاق وهي التي تكشف عن إرادة الزوج إيقاع الطلاق، وقد تكون باللفظ الصريح الدال عليه، أو بما يقوم مقامه في هذه الدلالة، وقد تكون بغير اللفظ الصريح وهذه هي صيغة الكناية في الطلاق.
صيغة الطلاق الصريحة
* اللفظ الصريح في الطلاق هو: اللفظ الذي لا يستعمل إلا في حَلِّ عقدة النكاح في عرف من نطق به، والسامع له، والموجَّه إليه، بناء على الوضع اللغوي لهذا اللفظ، أو بناء على العرف العام عند الناس في استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى.
* تعيين الألفاظ الصريحة في الطلاق
في تعيين الألفاظ التي ينطبق عليها هذا الوصف اختلافاً بين الفقهاء كالآتي:
: مذهب الحنابلة: اللفظ الصريح عندهم في الطلاق هو لفظ = الطلاق = وما تصرّف منه فقط، فلو قال: أنت طالق أو طلاق أو الطلاق، أو طلقتك، أو مطلَّقة فهو صريح لاغير. ومثله مذهب المالكية، فيلزم بهذه الألفاظ الطلاق ولا يفتقر إلى النيَّة.
: مذهب الحنفية: هو لفظ الطلاق أو التطليق مثل: أنت طالق، أو أنت الطلاق. ومن الصريح اللفظ المصحَّف في لفظ الطلاق حسب لهجة من ينطق الطلاق مثل: طلاغ، تلاغ، طلاك، تلاك، تلاق . ومن الصريح عندهم لفظ = الحرام = إذا تعارف قوم على إطلاق لفظ الحرام على الطلاق وصاروا يستعملونه عند إضافته إلى المرأة، فلو قال لزوجته: أنت عليّ حرام وقع الطلاق.
: مذهب الشافعية: صريحة جزماً = الطلاق = وما اشتق منه، وكذا من صريحه = الفراق = و = السراح = وما اشتق منهما على المشهور فيهما لاشتهاره لغة وعرفا ولورودهما في القرآن بمعنى الطلاق. وعلى المشهور عندهما أيضاً = الخلع = .
* حكم اللفظ الصريح في الطلاق:
الطلاق يقع به مادام الناطق به يعرف مدلوله، ولا يشترط لوقوع الطلاق به نيَّة إيقاع الطلاق، لأن اللفظ صريح في دلالته على إرادة الطلاق بالتلفظ به، والنية إنما تعمل في تعيين المبْهم لا الصريح، وقال تعالى: ) فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( شرع الطلاق من غير شرط النية، ولأن رسول الله r لم يسأل عبد الله بن عمر لما طلق امرأته في حال الحيض هل نوى الطلاق أو لم ينوِه، ولو كانت النية شرطاً لسأله. وعلى هذا إجماع الفقهاء، فلو قال: لم أنْوِ به الطلاق لم يقبل، ولو قال: أردت أنها طالق من وثاق، لم يصدق في القضاء، وكذا لا يسع المرأة أن تصدقه لأنه خلاف الظاهر، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى.
* ما يقوم مقام اللفظ الصريح:
تقوم الكتابة مقام اللفظ الصريح عند جمهور الفقهاء وخالف في ذلك الظاهرية، كما يقوم مقام اللفظ الصريح إشارة الأخرس الدَّالة على إرادته إيقاع الطلاق.
: الكتابة نوعين: مستبينة = واضحة = وغير مستبينة، كالتي تكتب على الهواء أو على الماء، وهذه لا يقع بها طلاق وإن نواه.
والكتابة المستبينة، وهي التي لها بقاء بعد كتابتها كالتي تكتب على الورق، فهي نوعان: مرسومة، وغير مرسومة، أما المرسومة فهي المكتوبة على طريق الخطاب والرسالة ومعنْوَنة إلى الزوجة، كأن يكتب إليها زوجها: أما بعد، يا فلانة فأنت طالق، فيقع الطلاق بفراغه من كتابة هذه العبارة لأنها منجَّزة، أما إذا كانت معلقة كما لو قال لها: يا فلانة إذا وصلك كتابي هذا فأنت طالق، فإن الطلاق لا يقع إلا من وقت وصول الكتاب إليها.
وأما غير المرسومة فهي غير المعنْوَنة إلى الزوجة كأن يكتب على ورقة: فلانة زوجتي طالق، فإن نوى الطلاق وقع وإلا لم يقع، لأن الكتابة على هذا الوجه قد تكون بقصد تجويد الخط وتجربة القلم فلا يحمل ما كتبه على إرادة الطلاق إلا بالنية.
: طلاق الأخرس يقع بالإشارة المفهومة، لأنها صارت معهودة فأقيمت مقام العبارة دفعاً للحاجة، ويعتد بإشارته ولو قدر على الكتابة، ولكن لا يقع الطلاق بإشارة القادر على النطق.
صيغة الطلاق غير الصريحة = الكناية =
* يقصد بألفاظ الكناية في الطلاق كل لفظ يستعمل في الطلاق، وفي غيره، مثل قول الرجل لزوجته: أنت بائن، أو أنت خَليّة، أو أمرك بيدك، أو الحقي بأهلك ... وسمي هذا النوع من الألفاظ كناية، لأن الكناية في اللغة اسم لفظ استتر المراد منه عند السامع، وهذه الألفاظ استتر المراد منها عند السامع، فإن قوله: أنت بائن يحتمل البينونة عن النكاح، ويحتمل البينونة عن الخير أو الشر، وقوله: الحقي بأهلك يحمل على الطلاق لأن المرأة تلحق بأهلها إذا صارت مطلقة، ويحمل على أن الزوج أراد بقوله هذا الطرد والإبعاد عن نفسه مع بقاء النكاح، وإذا احتملت هذه الألفاظ الطلاق وغير الطلاق فقد استتر المراد منها عند السامع فافتقرت إلى النية لتعيين المراد .
* الكناية يقع بها الطلاق بالنية :
إذا كانت ألفاظ الكناية يقع بها الطلاق إذا تعينت بالنية، فالطلاق يقع بها إذا نواه الزوج، أي إذا قصد بنطقه بها إيقاع الطلاق على زوجته، وهذا عند جمهور الفقهاء خلافاً للظاهرية لا يرون وقوع الطلاق بألفاظ الكناية.
* شروط وأحوال وقوع الطلاق بالكناية:
ألفاظ الكنايات في الطلاق المعتبر منها ما يشهد له العرف واستعمال الناس بأنه كناية، ولا يكفي أنه مذكور في كتب الفقه، لأن العرف أو استعمال الناس قد يتغيّر، نبّه إلى ذلك الإمام الأصولي والفقيه القَرَّافي وهو يتكلم عن الكنايات في الطلاق وما يقع بها فقال: إن مالكاً أو غيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام لأن زمانهم كان فيه عوائداً اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها، فإذا وجدنا زماننا عُرْياً عن ذلك وجب علينا أن لا نفتي بتلك الأحكام = من وقوع الطلاق بها أو عدم وقوعه = في هذه الألفاظ، لأن انتقال العوائد يوجب تغيّر الأحكام. انتهى وعليه فما يعتبر من ألفاظ الكنايات في الطلاق هو ما يعتبره عرف الناس وعاداتهم في استعمال هذه الكنايات في الطلاق مريدين بها إيقاع الطلاق. لأن الفقه في المذاهب قد استعاض في تعيين ألفاظ الكنايات في الطلاق.
أولاً: مذهب الحنفية
إذا تلفظ الزوج واحداً من ألفاظ الكناية فالحال لا يخلو بين الزوجين عند تلفُّظه بذلك: إما أن تكون حالة الرضا وابتدأ الزوج بالنطق بلفظ الكناية. وإما أن تكون الحالة حالة مذاكرة الطلاق، أو سؤال الزوجة الطلاق، وإما أن تكون الحالة حالة غضب وخصومة.
: الحالة الأولى: حالة الرضا بين الزوجين: إذا ابتدأ الزوج بالنطق بلفظ كناية الطلاق فإنه يُسأل عن بيته، وهل أراد الطلاق بما تلفّظ به أم لا، ويصدَّق في قوله في جميع ألفاظ الكنايات بأنه أراد الطلاق، كما يُصدَّق في قوله ما أردت بها الطلاق مع حلف اليمين.
: الحالة الثانية: حالة مذاكرة الطلاق أو حالة الغضب والخصومة، فلهذه الحالتين ثلاثة أقسام:
‌أ- يشتمل القسم الأول خمسة ألفاظ هي: أمرك بيدك، اختاري، المتدى، استبرئي رحمك، أنت واحدة. والطلاق يقع بهذه الألفاظ . ولا يصدق بأنه ما أراد بها إيقاع الطلاق، لأن هذه الألفاظ وإن كانت تحتمل إرادة الشتم، فتعينت الحالة للدلالة على إرادة الطلاق بدلالة الحال في ظاهر كلامه.
‌ب- يشمل هذا القسم خمسة ألفاظ أيضاً من ألفاظ الكنايات وهي: خليَّة، وبريئة، وبَتَّة، وبائن، وحرام، وهذه الألفاظ كما تصلح للشتم تصلح لإرادة الطلاق، فإن الرجل يقول لأمرأته عند إرادة الشتم: أنت خلية من الخير، بريئة من الصلاح، بائن من الإحسان، بتة من المروءة، حرام العشرة معك، فيبقى اللفظ محتملاً على نفسه للطلاق وغيره، فإذا قصد به غيره فقد نوى ما يحتمله كلامه والظاهر لا يكذبه فيصدَّق في القضاء.
‌ج- هذا القسم يشمل بقية ألفاظ الكنايات غير ألفاظ القسمين الأول والثاني مثل: لا سبيل لي عليك، أو لا نكاح لي عليك، أنت حرَّة، أو قومي، أو أخرجي، أو اغربي، أو انطلقي، أو انتقلي، أو تقنَّعي، أو استتري، أو تزوّجي، أو ابتغي الأزواج، أو الحقي بأهلك ونحو ذلك.
وهذه الألفاظ لا تصلح للشتم، ولكن تصلح للتبعيد والطلاق، لأن الإنسان قد يبعد الزوجة عن نفسه حال الغضب من غير طلاق، فالحال لا يدل على إرادة أحدهما: التبعيد والطلاق، فإذا قال: ما أردت بهذا اللفظ إيقاع الطلاق فقد نوى ما يحتمله لفظه والظاهر لا يخالفه فيصدّق في القضاء.
ثانياً: مذهب الحنابلة
قالوا: الكنايات في الطلاق نوعان: ظاهرة، وخفية:-
أ‌- أما الكنايات الظاهرة فهي ست عشرة كناية: أنت خليّة، بريَّة، بائن، بتَّة، = أي مقطوعة، تْلة = أي منقطعة = أنت حرة، أنت الحرج = أي الحرام والإثم = حبلك على غاربك، تزوجي مَن شئت، حللْتِ للأزواج، لا سبيل لي عليك، لا سلطان لي عليك، اعتفُتك، غطِّي شعرك، تقنّعي، أمرك بيدك .
ب‌- النوع الثاني وهو الكنايات الخفية فمثل: اخرجي، اذهبي، وذوقي وتجرّعي، خلَّيتُك، أنت مُخلاَّه، أنت واحدة، لستِ لي بامرأة، المتدِّى، استبرئي، اعتزلي، الحقي بأهلك، لا حاجة لي فيك، ما بقى شيء، أعفاكِ الله، الله قد أراحني منك، اختاري، جرى القلم، أبرأك الله، فرّق الله بيني وبينك في الدنيا والآخرة.
: والكناية الظاهرة والخفية لا يقع بها طلاق إلا أن ينويه بنية مقارنة اللفظـ، أو ما يقوم مقام النية كحالة الغضب والخصومة، أو عند جواب سؤالها الطلاق، فيقع الطلاق في هذه الحالة ولو بلا نيَّة لأن دلالة الحال كالنيّة. فيقبل منه قوله في الفُتْيا، أما في القضاء فلا يقبل منه ما دلت عليه الحال.
مذهب الشافعية
* لا يقع الطلاق إلا بصريح أو بكناةي مع النيّة، وكناية الطلاق ألفاظ كثيرة، منها: أنت خلية، برية، بتَّة، بتلة، بائن، اعتدى، استبرئي رحمك، الحقي بأهلك، حبلك على غاربك، اغربي، تقنَّعي، تستّري، لا حاجة لي فيك، أنت وشأنك، أنت وليَّة نفسك، فلو نوى بأي لفظ من هذه ونحوها صار طلاقاً، سواء يف حالة الرضا أو في حالة الغضب، وسواء سألته الطلاق أو لم تسأله.
مذهب المالكية
* قالوا: كنايات الطلاق الظاهرة: بتّة، حبلك على غاربك، اعتدِّي، يقع بها الطلاق وإن لم ينوِه، فلها حكم اللفظ الصريح في الطلاق.
وأما الكنايات الخفية: ادخلي، اذهبي، انطلقي، خلَّيْت سبيلك، فيقع بها الطلاق إاذ نواه.
ما يقع من الطلاق بالكناية
* اختلفوا فيما يقع به الطلاق بألفاظ الكنايات، هي هل طلقة رجعية أم بائنة، وهل تطلق طلقة واحدة أو أكثر. والراجح جعلها طلقة واحدة رجعية، لأن الأصل في الطلاق أن يكون رجعياً.
أحوال الصيغة
* الطلاق الواقع قد يكون فورياً وهو الطلاق المنجّز، وقد يكون بصيغة مضافة إلى زمن ماضٍ، وقد تكون مضافة إلى زمن مستقبل، وقد تكون معلقة على شرط، وقد تكون بصيغة الحِلف.
صيغة الطلاق المنجزة
* يقصد بها الصيغة التي تكون مطلقة، لا مضافة إلى زمن ولا إلى شرط. كقول الرجل لزوجته: أنت طالق. وهذه هي الصيغة الأصل في الطلاق.
* ولا خلاف بين الفقهاء في وقوع الطلاق بالصيغة المنجزة فوراً إذا توافرت في الزوج المطلق، وفي الزوجة الواقع عليها الطلاق الشروط المطلوبة، وتترتب على هذا الطلاق آثاره المقررة شرعاً.
صيغة الطلاق المضافة إلى زمن ماضٍ
* إذا قال لزوجته: أنت طالق أمس، أو الشهر الماضي، أو السنة الماضية وقصد أن يقع الطلاق إلى الزمن الذي أضاف الطلاق إليه، يقع الطلاق في الحال بشرطين: الأول: أن يكون الزوج المطلق أهلاً لوقوع الطلاق وقت صدور الصيغة منه. الثاني: أن تكون الزوجة محلاًّ للطلاق في وقت إنشائه بصيغة الماضي، وأن تكون كذلك محلاً للطلاق في الوقت الذي أسند إليه الطلاق بهذه الصيغة.
: قال الشافعية تعليلاً لذلك: يقع الطلاق بلفظه ويلغو قصد الإستناد إلى الزمن الماضي لاستحالته. وقال المالكية: يقع في الحال باعتبار أن الطلاق بصيغة الماضي من نوع الهزل، وطلاق الهازل يقع في الحال.
: لا يقع الطلاق عند الظاهرية إلا إذا أضيف إلى زمن ماضٍ أو مستقبل. لأنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع ذلك.
صيغة الطلاق المضافة إلى زمن مستقبل
* يقع الطلاق في الوقت المعين في الصيغة عند جمهور الفقهاء، فإذا قال لزوجته: أنت طالق غداً، وقع الطلاق حين يطلع فجر الغد، وإذا قال لها: أنت طالق في شهر كذا، وقع بأول جزء منه لتحقيق الاسم بأول جزء منه فيقع الطلاق في أول ليلة يُرى فيها الهلال، لأنه جعل ذلك الوقت ظرفاً للطلاق، فإذا وُجد ما يكون ظرفاً عيَّنه طُلِّقت.
: قال المالكية: الطلاق المضافة إلى زمن مستقبل يقع حالاً ولا ينتظر له حلول الوقت المضاف إليه الطلاق، لمنع أن يكون شبيهاً بنكاح المتعة، فإنه إذا قال لزوجته في أول رجل: أنت طالق في نهاية رجب، فمعنى ذلك أن النكاح بينهما يبقى لمدة شهر فقط ثم يزول وينقطع في نهاية رجب فيكون نكاحاً مؤقتاً فيكون هذا شبيهاً بنكاح المتعة، وإلا لم يجز تأجيل الطلاق وقع في الحال.
: الظاهرية لا يقع هذا الطلاق لا في المستقبل الذي عيَّنه الزوج ولا في الحال.
* قال بعض العلماء: إذا قلنا أن الأصل في الطلاق الحظر ويباح للحاجة، فإن إضافة الطلاق للمستقبل تشعر بأن لا حاجة إلى الطلاق في الوقت الحاضر، وأما قول المالكية بأن إضافة الطلاق إلى المستقبل هو من قبيْل توقيت النكاح فغير صحيح لأنه توقيت للطلاق وليس توقيت للنكاح الصحيح، كما أن النكاح لا يجوز فيه التعليق ويجوز في الطلاق التعليق.
صيغة الطلاق المعلقة على شرط
* صيغة الطلاق المعلقة على شرط تعني أن المطلق يربط حصول الطلاق بحصول ما اشترطه من شرط هو محتمل الوجود، كأن يقول لزوجته: إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق فهو قد ربط حصول الطلاق بحصول ما اشترطه وهو خروجها من الدار بغير إذنه، وهو أمر محتمل الوجود، والجمهور على أن الطلاق المعلق على شرط يقع إذا تحقق الشرط خلافاً للظاهرية.
* يشترط لصحة تعليق الطلاق على شرط كون الشرط متردِّداً بين أن يوجد وأن لا يوجد = أي محتمل الوقوع = فلا يصح التعليق المحقق الوجود، ولا بالشرط المستحيل، فإذا قال لزوجته: أنت طالق إن كانت السماء فوقنا، فهذا شرط محقق الوجود، فيلغو الشرط وتكون الصيغة منجزة حقيقة وإن جاءت بصيغة التعليق ظاهراً، فيقع الطلاق بها منجزاً، وكذلك لو قال لها: أنت طالق إن دخل الجمل في سمِّ الخياط، فالشرط في هذه الصيغة شرط مستحيل، فيلغو الشرط ولا يقع الطلاق بهذه الصيغة أصلاً، لأن الغرض من إيراد هذا الشرط في الصيغة تحقيق نفي الطلاق حيث علَّقه بشيء محال.
: تعليق الطلاق على مشيئة الله تعالى، كما لو قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، فهذا التعليق لا يقع به الطلاق، لأن مشيئة الله تعالى لا يطلع عليها أحد، فكان كالتعليق على شرط مستحيل، فيكون نفْياً للطلاق وليس إرادة وقوعه.
وقال الشافعية: لو قصد بها التَّبرُّك وقع الطلاق، ولأحمد ابن حنبل في ذلك قولين.
: قال المالكية: إن علَّق الطلاق على شرط لابد أن يقع، أو علَّقه على أجل يبلغه عمر الإنسان عادة، كقوله: إن دخل الشهر، فإن الطلاق يقع في الحال، ولا ينتظر وقوعه إلى حين حصول الشرط. وكذلك قالوا: إن علق الطلاق على مشيئة الله تعالى وقع الطلاق حالاً، لأنه لا سبيل إلى معرفة مشيئة الله تعالى.
الطلاق بصيغة الحلف
* لا يجوز إبطال التعليق بعد صدوره.
فليس للمطلق طلاقاً معلقاً بشرط أن يبطل التعليق، لأن إبطاله رفع له، وما وقع لا يرتفع، فإذا وجدت الصفة المعلق عليها الطلاق، وهي المعبر عنها بالشرط، طُلقت لوجود الصفة وإن لم توجد لم تطلق.
وإن قال مَن علّق طلاقه بشرط لم أقصده ولم أُرِدْهُ وقع الطلاق في الحال لأنه أقرّ على نفسه بإيقاعه، ويكون إقراره هنا صيغة طلاق في الحال.
صيغة الحلف بالطلاق
* اختلف الفقهاء في اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق على ثلاثة أقوال:
الأول: قال به أصحاب المذاهب الأربعة: يقع الطلاق المعلق متى وجد المعلق عليه، سواء أكان فعلاً لأحد الزوجين، أم كان أمراً سماوياً، وسواء أكان التعليق قسمِيًا أم شرطياً يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشْرط .
أدلة الجمهور:
1- الكتاب مثل قوله تعالى: ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ( فلم يفرق بين منجز ومعلق .
2- السنة: لقوله r: " المسلمون عند شروطهم "
أ- أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " طلق رجل امرأته البتَّة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء ".
ب- روى البيهقي عن ابن مسعود t: " في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، ففعلته فقال: هي واحدة = أي طلقة = وهو أحق بها " أي في رجعتها.
جـ- صح عن أبي ذر الغفاري t: " أن امرأته لما ألحَّت عليه في السؤال عن الساعة التي يستجيب الله فيها الدعاء يوم الجمعة قال لها: إن عدت سألتني فأنت طالق "
د- أخرج ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كل يمين وإن عظُمت ففيها الكفارة إلا العتق والطلاق " .
هـ- روى البيهقي عن ابن عباس t: " في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة، قال: يستمتع بها إلى سنة ".
و- روى البيهقي عن فقهاء أهل المدينة: " أنهم كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت حتى الليل، فخرجت امرأته قبل الليل بغير علمه، طُلقت امرأته " .
3- المعقول: حيث قد تدعو الحاجة إلى تعليق الطلاق كما تدعو إلى تنجيزه زجراً للمرأة، فإن خالفت كانت هي التي اختارت طلاقها المأذون لها في اختياره. فكأنه قال: اختاري إما الطلاق أو تنفيذ ما أردت. كأن يقول لها: إن خرجت فأنت طالق ويجب أن لا تخرج ويحضها على ذلك، فهو قد أعلمها أنه لا يريد خروجها وأنها إن اختارت الخروج فقد اختارت الطلاق، فاختارت هي مخالفته ورغبت في الطلاق الذي خيّرها فيه.
القول الثاني: قال الظاهرية والشيعة الإمامية: الحلف بالطلاق والطلاق المعلق لا يقع أصلاً. واستدلوا بقوله r: " من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله " .
ورُدّ عليهم: بأن التعليق في الحقيقة إنما هو شرط وجزاء، فإطلاق اليمين عليه مجاز المشاركة الحلف في المعنى وهو الحث على الشيء أو على منعه أو تأكيداً للخبر.
القول الثالث: قال ابن تيمية وابن القيم: إن التعليق على شرط أو على وجه غير اليمين يقع الطلاق عند حصول الشرط، وإن التعليق قَسَمِيًا ووجد المعلق عليه لا يقع ويجزيه كفارة يمين، وعند ابن القيم هو لغو لا كفارة فيه.
قالا: إن كان الحلف المقصود منه الحث على الفعل أو المنع منه، أو تأكيد الخبر، :ان في معنى اليمين فيدخل في أحكام الأيمان في قوله تعالى: ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ( وقوله سبحانه: ) ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ (
وإن لم تكن يميناً شرعية كانت لغواً ورُدّ عليهم: بأن الطلاق المعلق لا يسمى يميناً شرعاً ولا لغة، وإنما هو يمين على سبيل المجاز المشابهة اليمين الشرعية في إفادة الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، فلا يكون له حكم اليمين الحقيقي.
واستدعو بما روى عن علي t أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس بشيء، ورُدّ عليهم أن ذلك كان أيام الإضطهاد يحلفون الناس بالطلاق والعتق حتى يضطروهم للفعل أو المنع.
المطلِّق

هو الذي يملك إيقاع الطلاق ويوقعه فعلاً وهو الزوج. يقول الله تعالى: ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ( ويقول تعالى: ) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ( ويقول r: " الطلاق لمن أخذ بالساق " أي الزوج، رواه ابن ماجة.
* شروط يجب أن تتوافر في المطلق :
1- أن يكون المطلق5 بالغاً عاقلاً، فلا يقع طلاق الصبي وإن كان عاقلاً، فلا يصح الطلاق من غير مكلَّف كصبي.
: قال الحنابلة: يصح الطلاق من زوج عاقل ولو مميِّزاً يعقل الطلاق ولو كان دون عشر سنين لعموم قوله r: " الطلاق لمن أخذ بالساق " ومعنى كون الصبيّ المميز بعقل الطلاق هو أن يعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه إذا طلقها.
: وتعليل عدم صحة طلاق الصبي المميز عند الجمهور: أن كليات الشريعة لا تجيز التصرفات إلا ممن له أهلية التصرّف، وأدناها العقل والبلوغ خصوصاً ما هو دائر بين الضرر والنفع.
: ويشترط في الزوج المطلق أن يكون عاقلاً فلا يقع طلاق المجنون لقوله r: " رُفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ. وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق " قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: أجمع أهل العلم على أن الزائل العقل بغير سُكر أو ما في معناه لا يقع طلاقه.
: يُلْحق بالمجنون النائم والمعتوه والمُبَرْسَم والمغمى عليه والمدهوش.
المعتوه: هو القليل الفهم المختلط الكلام الفاسد التدبير ولكنه لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون. والمبرْسَم: ويقال: الموم هو علة في العقل كالمجنون. والمدهوش: هو من ذهب عقله حياءً أو خوْفاً فيغلب عليه الخلل ويهذي بسبب ما أصابه من صدمة عصبية أصابته فأذهبت عقله.
: طلاق السفيه معتبر لأن السَّفه لا يؤثر في العقل من جهة إدراكه الأمور، فليس في عقله خلل يلحقه بالمجنون. والسَّفَه: خِفَّة تبعث الإنسان على العمل في ماله بخلاف مقتضى العقل.
: السكران زائل العقل هل يقع طلاقه ؟ جمهور الفقهاء يفرقون بين سكران بطريق محظور، وبين سكران بطريق غير محظور. فمن سكر بطريق غير محظور كالذي يشرب شراباً فيسكره، أو تناول دواء فغيّب عقله، أو تناول مسكراً ولم يعلم أنه مسكر فأسكره ففي هذه الحالات إذا طلق لم يقع طلاقه بلا خلاف.
والسكر: هو سرور يزيل العقل فيهذي في كلامه ويأتي بما لا يعقل. فجمهور الفقهاء قالوا: يقع طلاق السكران بطريق محظور، وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. وقال الظاهرية: طلاق السكران لا يلزم سواء بطريق محظور أو غير محظور. وهذا القول اختاره ابن تيمية وبان القيم وهو رواية عن أحمد وبعض التابعين وقال ابن المنذر ثبت ذلك عن عثمان بن عفان t. وقالوا: معاقبة من سكر بطريق غير مشروع عقوبة غير العقوبة المقدّرة لجريمة السكر وأذى بالمرأة.
2- الشرط الثاني: أن يكون المطلِّق مختاراً غير مكره.
قال الجمهور: لا يقع طلاق المكره، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وروى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر بن سمرة y وغيرهم من علماء التابعين، وقال الحنفية: يقع طلاق المكره، ووافقهم الشعبي والنخعي والزهري والثوري.
: قال الحنفية: أن العلّة في وقوع طلاق المكره هي حاجته إلى التخلص مما تُوُعِّد به من القتل أو الجرح أو الأذى الذي لا يطيقه، فالمكره عرف الشَّريْن والضررين: ضرر إيقاع الطلاق، والضرر المهدد به فاختار أهونهما وهو إيقاعه للطلاق فهو مخترا اختياراً كاملاً.
: قال الجمهور: الإكراه لا يكون مع الإختيار لإفساده إيَّاه، والتصّرف الشرعي إنما يعتبر شرعاً بالإختيار، فإن فات الإختيار لم يكن للتصرف اعتبار، وطلاق المكره في الحقيقة قوْل أكره عليه بغير حق فلا يجوز أن يثبت له حكم. وكيف يصح إيقاع طلاق المكره مع علمنا يقيناً بأنه لا يريد الطلاق ولا يقصده ولا حاجة له فيه. وقال رسول الله r: " إن الله وَضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه " رواه ابن ماجة، وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: " سمعت رسول الله r يقول: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". قال أبو داود وعلماء الغريب: الغلاق الغضب وقال ابن تيمية: الإغلاق إنسداد باب العلم والقصد عليه، فيدخل فيه طلاق المعتوه والمجنون والسكران والمكره والغضبان الذي لا يعقل ما يقول، لأن كلا من هؤلاء قد أغلق عليه باب العلم والقصد، والطلاق إنما يقع من قاصد له عالم به.
: بماذا يتحقق الإكراه ؟
1- أن يكون المكرِه قاهراً للمكرَه لا يقدر على دفعه .
2- أن يغلب على ظن المكرَه أن ما يخافه من المكِره واقع به.
3- أن يكون ما يهدده به المكِره مما يلحق به ضرراً مثل القتل والقطع والضرب المبِّرح والحبس الطويل ونحوه.
3- الشرط الثالث أن يكون المطلق قاصداً الطلاق. وهو كونه ناوياً إيقاع الطلاق مريداً له عازماً عليه. فالطلاق إنما يكون بلفظ ونية أو بلفظ فقط أو بنية فقط.
: لا يقع الطلاق بالنيّة المجرّدة. فإن نوى الزوج في قلبه تطليق زوجته أو طلقها في نفسه دون أن يتلفظ بلفظ الطلاق فإن طلاقه لا يقع، وهذا قول عامة الفقهاء خلافاً للزهري وابن سيرين. قال الزهري: إذا عزم على الطلاق طلِّقت زوجته، وقال ابن سيرين وقد سئل عمّن طلق في نفسه قال: أليس قد علمه الله ؟ قال السائل: بلى. قال ابن سيرين: فلا أقول فيها شيئاً.
وقال العلماء: صريح حديث رسول الله r قال: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " . رواه البخاري والترمذي .
* طلاق الهازل وهو من يقصد التلفظ بلفظ الطلاق ولكن لا يريد حكم هذا اللفظ. فهل يقع طلاقه ؟ قال ابن قدامة في المغني: إن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية، بل يقع من غير قصد ولا خلفا في ذلك سواء قصد المزاح أو الجد. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على ان جدّ الطلاق وهزله سواء، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهم وقالت الشيعة: لا يقع طلاق المكره ولا الهازل.
: قال رسول الله r: " ثلاث جِدُّهن جِدّ وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة " رواه أبو داود والترمذي. قال العلماء: الهازل مكلف اختار التلفظ بالطلاق ولو أُطْلق للناس جواز الإحتجاج بالهزل لتعطلت الأحكام وهذا يؤدي إلى الفوضى وارتكاب المرحم، والنكاح والطلاق والرجعة واجب فيها صيانة الفروج من العبث.
: طلاق المخطئ كأن يريد أن ينادي زوجته باسمها فيسبق لسانه إلى النطق بكلمة = طالق = مخاطباً إياها بهذا اللفظ، أو يتكلم بما يدل على الطلاق وهو لا يقصد بما نطق به ولكن لسانه سبق إلى ما نطق به.
قال الجمهور: لا يقع طلاق المخطئ إن ثبت سبق لسانه وإن لم يثبت قُبل في الفتوى دون القضاء.
وقال الحنفية: يقع طلاق المخطئ بالتلفظ بلفظ الطلاق ولا يقبل منه أنه أخطأ لأنه أمر باطني وقد يتخذ وسيلة إلى إحلال ما حرّم الله وهذا في القضاء أما في الفتوى والديانة فإن الطلاق لا يقع إذا علم من نفسه أنه أخطأ ولم يقصد الطلاق. وقال الجمهور: إن الشرع منع الهزل في الطلاق واعتبره كالجِدّ فيه حماية للفروج، أما المخطئ فمعذور ولم يختر التلفظ .
: طلاق الملقَّن وهو من لُقِّن عبارة الطلاق وهو لا يفهمها كالأعجمي، فالطلاق لا يقع لعدم قصده إيقاع الطلاق.
* طلاق الحاكي كالفقيه أو للتعليم لا يقع به طلاق.


طلاق غير الزوج

* الأصل أن الزوج هو الذي يطلق زوجته، ولكن هناك حالات نجد فيها غير الزوج يوقع الطلاق على زوجة غيره ويعتبر طلاقه، كالمولىّ، والوكيل، والقاضي، وقد يفوِّض الزوج زوجته في تطليق نفسها.
تطليق الوليّ
* هناك وليّ خاص وهو الولي على النفس بالنسبة للصغير والمجنون كالأب، وهناك الولاية العامة للقاضي.
: لا يجوز للأب أن يطلق امرأة الصغير أو المجنون بِعِوَض أو بغير عِوَض للحديث " الطلاق لمن أخذ بالساق " ولأن الطلاق طريقه الشهوة فلم يدخل في الولاية. وهذا مذهب الحنيفة والشافعية وأحد قولي أحمد بن حنبل. وهو مروي عن عمر بن الخطاب t.
: يجوز للولي تطليق زوجة الصغير والمجنون إذا كان التطليق بعِوَض أو فيه مصلحة للصغير أو المجنون. وهذا مذهب مالك .
: يجوز للولي تطليق زوجة الصغير أو المجنون إطلاقاً لأن ابن عمر طلق عَلَي ابن له معتوه. وهذا هو القولي الثاني لأحمد.
تطليق الوكيل

* للزوج أن يوكل من يزوِّجه وله أن يوكل من يطلق عليه زوجته، فيمن صحَّ طلاقه صحَّ توكيله فيه، كما له أن يوكل زوجته. وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
: قال ابن حزم الظاهري: لا تجوز الوكالة في الطلاق، ولم يأتِ في طلاق أحد عن أحد بتوكيله إيّاه قرآن ولا سنة فهو باطل. كما لا يجوز أن يظاهر أحد عن أحد أو يلاعن أحد عن أحد.
: إذا أرسل الزوج رسولاً يبلغ الزوجة طلاقها. فلا يعتبر الرسول وكيلاً في الطلاق. فالمرأة يقع عليها الطلاق بعبارة زوجها لا بعبارة الرسول، بينما في الوكالة يقع الطلاق بعبارة الوكيل. * التفويض في الطلاق
* إذا أناب الزوج زوجته في تطليق نفسها سمِّيَ هذا التوكيل تفويضاً، وكذلك إذا أناب شخصاً غيره وقال له طلِّق زوجتي إن شئت كان ذلك تفويضاً له.
* أجاز جمهور الفقهاء التفويض في الطلاق ومنعه بعضهم.
مذهب الحنفية
يرى الحنفية أن تفويض الطلاق إلى الزوجة من قبيل التمليك لا من قبيل التوكيل. والمالك هو مَن يعمل بمشيئة نفسه، والوكيل مَنيعمل بمشيئة موكله. لذلك:
1- الزوج في التمليك = أي تفويض الطلاق لزوجته = لا يملك الرجوع عن تفويضه الطلاق للمفوض إليه بخلاف التوكيل وسبب ذلك أن التفويض يتضّمن تعليق الطلاق على تطليق مَن فوّض إليه أمر الطلاق، ولا يجوز الرجوع في التعليق، والطلاق مما يجوز تعليقه فلا يجوز الرجوع فيه.
2- لا يملك الزوج عزل مَن فوّض إليه الطلاق، لأن التفويض تمليك ولا يجوز العزل فيه، بينما في التوكيل يملك الموكل عزل وكيله.
3- التفويض إذا كان مطلقاً بقيد الزمن فإنه يتقيّد بمجلس العقد عند التفويض.
* آثار التفويض عند الحنفية: بالنسبة للزوج لا يؤثر التفويض في حقه في إيقاع الطلاق على زوجته وإنما يشترك المفوض إليه معه في هذا الحق ولكن على وجه الإنفراد فيوقع أي منهما الطلاق منفرداً .
* أنواع التفويض في الطلاق عند الحنفية:
1- إن كان التفويض في مجلس التفويض وكانت حاضرة فقال لها: طلِّقي نفسك خلال عشرة أيام، فلها أن تطلق نفسها خلال هذه المدة. فإن انقضت العشرة بطل تفويضها، وإن كانت غائبة عن مجلس التفويض فإن بلغها قبل مضيِّ الوقت فلها إيقاع الطلاق فيما بقى من وقت التفويض. وإن بلغها بعد مضيّ الوقت بطل التفويض.
2- إذا كان التفويض غير مقيد بوقت معين مثل أن يقول لها: اختاري نفسك أو أمرك بيدك ناوياً الطلاق، فإن حقها في تطليق نفسها يتقيد بمجلس التفويض إن كانت حاضرة أو بمجلس علمها به إن كانت غائبة عنه، فإن طلقت في المجلس وإلا بطل التفويض .
3- إذا كان التفويض عاماً في الزمان كما لو قال لها: أمرك بيدك متى شئتِ ناوياً تفويض الطلاق إليها، لها أن تستعمله متى شاءت دون أن تتقيّد بمجلس التفويض أو وقت معين.
* نوع الطلاق الواقع بالتفويض إذا كان باللفظ الصريح في الطلاق كأن يقول لها: طلقي نفسك إن شئتِ فطلقت نفسها وقع الطلاق رجعياً، وإن كانت بألفاظ الكنايات مثل أن يقول لها: أمرك بيدك ونوى الطلاق وقع الطلاق بائناً.
* يصح إنشاء التفويض عند الحنفية قبل عقد الزواج، وعند إنشاء عقد الزواج، وبعد إنشائه. فيصح لو قال لامرأة: أمرك بيدك متى شئتِ إن تزوجتك. وعند إنشاء العقد إن كان الموجب هو الزوجة أو وكيلها والقابل هو الزوج لأنه في هذه الحالة كان صدور التفويض من زوج. أما إن كان الزوج هو الموجب فلا يصح لأن الزواج لم يقم إلا بعد القبول ليس هنا قبول قد تم.
مذهب الشافعية
لا يكون التفويض إلا لزوجة بالغة عاقلة، وأما إنابة غيرها فهو توكيل لا تفويض. والتفويض تمليك للطلاق.
* إذا فوّض الزوج الطلاق إلى زوجته عليها أن تطلق نفسها في مجلس التفويض فوراً إن أرادت تطليق نفسها، فإن انقضى مجلس التفويض وتفرَّقا بطل التفويض لأنه من التمليكات ويشترط فيها الفورية.
ويستثنى من شرط الفورية في إيقاع الطلاق إذا اقترن بصيغة التفويض ما يدل على عدم اشتراط الفورية كأن قال لها: طلِّقي نفسك متى شئتِ.
* يكون التفويض باللفظ الصريح في الطلاق وبألفاظ الكناية مثل أَبِيني نفسك ونوى الطلاق.
* يشترط في صيغة التفويض أن تكون منجزة غير معلقة لأنه تمليك ولا يصح تعليقه، فإذا كان توكيلاً صح التعليق. كما يشترط النيّة في ألفاظ الكنايات، فإذا لم ينو الزوج التفويض فلا تفويض، وإن لم تنوِ هي الطلاق فلا تطليق، لأن الطلاق لا يقع بالكناية وحدها بلا نيَّة .
* للزوج أن يرجع عن تفويضه قبل أن توقع الزوجة الطلاق لأن التمليك والتوكيل يجوز الرجوع فيهما قبل القبول.
مذهب المالكية
التفويض عندهم على ثلاثة أقسام: توكيل، وتمليك، وتخيير.
فالتوكيل أن يقول لزوجته إلى غيرها: وكلتك أن تطلقي نفسك، والتمليك أن يقول لها: أمرك بيدك أو طلاقك بيدك، والتخيير أن يقول لها: اختاري نفسك. فالوكيل يفعل ما وكِّل فيه على سبيل النيابة عن موكله، بينما المملَّك والمخيّر إنما يفعلان ذلك عن نفسهما، ولا يملك الزوج عزل مَن ملكه الطلاق.
* الحيلولة بين الزوج وزوجته في التفويض، ففي حالة التمليك والتخيير يجب أن يُحال بينهما فلا يقربها ولا يطأها حتى تبيِّن موقفها من تطليق نفسها، وكذلك خلال المدَّة التي حددها لها بأن قال لها: أمرك بيدك إلى سنة. وكذلك تجب الحيلولة في حالة توكيلها في تطليق نفسها حتى يرجع عن توكيله.
مذهب الحنابلة
يجوز للزوج أن يفوِّض أمر طلاق زوجته إليها أو إلى غيرها كأن يقول لها: أمرك بيدك ناوياً تفويض الطلاق إليها.
: فإذا قال لها: طلِّقي نفسك، أو أمرك بيدك فالتفويض بهاتين الصيغتين توكيل. أما التفويض بقوله: اختاري نفسك فهو خيار تمليك فكان على الفور كخيار القبول في مجلس التفويض، فإذا كان التفويض بصيغة منجزة ولكن مقيدة بزمن معين، تقيَّد التفويض بهذا الزمن، فإن كان التنجيز مطلقاً في كل زمان صح إيقاع الطلاق في أي وقت كما لو قال لها: اختاري نفسك متى شئتِ، فإذا قال لها: اختاري نفسك اليوم تقيد اختيارها في هذا اليوم. وكذلك إذا قال لها: أمرك بيدك إذا رجع فلان من السفر فهو معلق برجوعه من سفره فتملك تطليق نفسها إذا تحقق الشرط.
* للزوج الرجوع عن تفويضه في كل الصِّيغ لأنه توكيل ولا يصح التمليك ولا ينتقل عن الزوج وإنما ينيب عنه غيره. ويكون الرجوع بالقول أو بالفعل كأن يطأها فتبطل الوكالة.

المطلَّقة

* هي الزوجة التي يقع عليها الطلاق في عقد النكاح الصحيح، والزوجة يقع عليها الطلاق حال قيام الرابطة الزوجية، وقد يقع عليها الطلاق وهي في عِدَّة طلاق.
* الطلاق الذي لا خلاف في وقوعه هو أن يطلق الزوج امرأتهفي طهر لم يمسسها فيه طلقة واحدة، ويتركها حتى تنقضي عدتها فتصير هذه الطلقة الرجعية طلقة واحدة بائنة بينونة صغرى، إن لم تكن هذه الطلقة مكملة للطلاق الثلاث، وهو الطلاق المشروع ويسمَّى = طلاق السُّنَّة = .
* والطلاق المختلف في وقوعه هو ما خالف طلاق السنة الذي ذُكر بأن طلقها في طهر قد مسها فيه، أو طلقها وهي حائض، أو طلقها أكثر من طلقة واحدة بلفظ واحد. وهذا الطلاق يسمى = الطلاق البِدْعي = .
طلاق الحائض
* طلاق الزوجة وهي حائض محظور شرعاً لنهي الشرع عنه، ومن ثم قال الفقهاء إنه حرام، وقد دلّ على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.
: قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ( قال الزمخشري في التفسير: أي إذا أردتم تطليقهن وهممتم به فطلقوهن مستقبلات لعدتهن. وقال ابن كثير في التفسير: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه.
: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله r فسأل عمرُ بن الخطاب رسول الله r عن ذلك، فقال رسول الله r: مُرْهُ ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يَمَسَّ، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساء " قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح البخاري:فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، أي فتلك العدّة التي أذن الله أن يطلق لها النساء، وهذا مراد بيان الآية وهي قوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( وقال الإمام النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فلو طلَّق أثم. وقال الحطاب المالكي في مواهب الجليل: إن الطلاق في الحيض حرام بالإجماع. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني: فإن طلقها للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم.
: لا خلاف في أن الطلاق في النفاس له حكم الطلاق في الحيض عند المالكية والشافعية والظاهرية.
* يستثنى من حظر الطلاق في الحيض:
1- غير المدخول بها، لأن لا عِدَّة عليها، فلا يراعي في طلاقها كونها غير حائض، لأن عِلَّة النهي عن الطلاق في الحيض هي ألاَّ تطول عدة الحائض المطلقة، وهي غير متحققة في الحائض غير المدخول بها، لأنه لا عدة عليها إذا طلقت، قال ابن عبد البر المالكي: أجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو للمدخول بها، أما غير المدخول بها فليس لطلاقها سنة ولا بدعة إلا في عَدَد الطلاق على اختلاف بينهم فيه.
2- التطليق من الحاكم في الإيلاء إذا اتفق وقوع تطليقه في حال حيض الزوجة.
3- إذا اختلعت الزوجة من زوجها صح الخلع سواء كانت الزوجة حائضاً أو غير حائض، لأن علَّة تحريم الطلاق في الحيض هي لئلا تتضرر الزوجة في إطالة عدتها، وهذا المعنى غير موجود في حالة الإتفاق على الفرقة عن طريق الخلع. وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي r فقالت: يا رسول الله: ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خُلُق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله r: أَتَردِّين عليه حديقته ؟ قالت: نعم. قال: رسول الله r: اقبل الحديقة وَطلقها تطليقه ". ووجه الدلالة بهذا الحديث أن رسول الله r لم يستفصل من امرأة ثابت بن قيس هي حائض أم طاهرة، فدل على جواز الخلع في حال الحيض والطهر.
* حكمة تحريم الطلاق في الحيض يرجع إلى أمرْين: الأول: لئلا تطول عدة المرأة المطلقة وفي إطالتها ضرر عليها، والأمر الثاني: لغرض التأكد من أن الطلاق كان لحاجة الزوج إليه وليس مردّه إلى نزوة طارئة وغضب سريع وقرار متعجل. يقول الإمام الكاساني الحنفي: لأن فيه تطويل العدة عليها، لأن الحيضة التي صادفها الطلاق فيه غير محسوبة من العدة، فتطول العدة عليها وذلك إضرار بها، ولأن الطلاق للحاجة هو الطلاق في زمان كمال الرغبة وزمان الحيض زمان النُّفْرة، فيكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق، فلا يكون الطلاق فيه سُنَّة بل سفها.
* هل التحريم لحق الله تعالى أم لحق الحائض المطلقة ؟
يقول الإمام النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، ويفهم من ذلك جواز طلاق الحائض برضاها، وهذا يعني أن تحريم الطلاق في الحيض ثبت حقاً للمطلقة الحائض. وعند المالكية أن تحريم الطلاق ثبت أمراً تعبدِّياً حقاً لله تعالى، وعندهم قول صحيح على قول الجمهور.
* هل يقع الطلاق في الحيض ؟
: قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وعامة الفقهاء: يقع طلاق البدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه، ويأثم للتحريم. قال الإمام النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فلو طلقها أثم ووقع طلاقه، وشذَّ أهل الظاهر فقالوا: لا يقع. واستدل الجمهور على وقوع طلاق الحائض من القرآن الكريم بقوله تعالى: ) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( وهذا يعم كل طلاق. ومنه الطلاق البدعي، وكذلك قوله تعالى: ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ( ولم يفرق بين مطلقة في حيض وبين مطلقة في طهر، إذ لا يجوز إخراج بعض المطلقات من هذا العموم الوارد في هذه الآيات إلا بنص أو إجماع، ولا يوجد نص ولا إجماع في إخراج المطلقات في الحيض من هذا العموم .
وفي السنة المطهرة حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي رواه البخاري ومسلم بشأن طلاق زوجته في الحيض أن النبي r أمره أن يراجعها. قال الإمام النووي: في هذا الحديث ولو لم يقع طلاقه لم تكن رجعة، فإن قيل: المراد بالمراجعة أو الرجعة: الرجعة اللغوية وهي الردّ إلى حالها الأول لا أنها تحسب عليها طلقة، قلنا: هذا غلط من الوجهين: أحدهما: أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية يقدَّم على حمله على الحقيقة اللغوية. والثاني: أن ابن عمر صرّح في رواية لمسلم بأنه حسبها عليه طلقة. انتهى كلام النووي. وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عندما طلق زوجته وهي حائض قال ابن عمر: " حُسِبَت عليّ بتطليقة " وأخرج الدارقطني عن ابن عمر عندما طلق زوجته أن النبي r قال: " هي واحدة، أي تطليقة واحدة " قال ابن حجر العسقلاني بعد أن ذكر خبر الدارقطني: وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه.
: وقال الظاهرية وابن تيمية وابن القيم: لا يقع الطلاق في الحيض .
قال ابن تيمية وقد سُئل عن الطلاق في الحيض: ولا ريْب أن الأصل بقاء النكاح ولا يقوم دليل شرعي على زواله بالطلاق المحرم، بل النصوص والأصول تقتضي خلاف ذلك. واحتج أصحاب هذا الرأي بأن أمر النبي r لعبد الله بن عمر أن يرجع زوجته، أن المراد بالرجعة معناها اللغوي وليس معناها الاصطلاحي، أي الرجوع لحالتهما التي كانا عليها من الإجتماع قبل الطلاق، كما استدلوا بحديث رواه أبو داود في سننه أن ابن عمر قال: " أن النبي r ردّ عليّ زوجتي ولم يرها شيئاً " وهي رواية عن أبي الزبير، وقال أبو داود بعد أن أخرج الحديث: والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبز الزبير. وقال الإمام الخطابي: قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة. وقال ابن عبد البر: ولم يرها شيئاً لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه ؟ ولو صح فمعناه عندي: ولم يرها شيئاً مستقيماً لكونها لم تقع على السنة .
* هل تجب المراجعة ؟
: قال المالكية: المراجعة واجبة على الزوج المطلق، فإن راجعها فيها ونعمت، وإن أَبَى أمره الحاكم بها لأنه ممتنع من أداء واجب عليه، فإن أبى أن يراجعها من أمر الحاكم له بالمراجعة أجبره عليها بالتهديد بإيقاع الأذى به كالسجن والضرب، فإذا أصرَّ على إبائه ورفضه ارتجعها الحاكم عليه، لأن الإرتجاع في هذه الحالة حق لله تعالى.
: قال الحنفية في القول الأصح: تجب المراجعة ديانة لا قضاء، والقول الثاني: يستحب الرجعة.
: قال الشافعية والحنابلة وهو القول الثاني للحنفية: يستحب المراجعة ولا تجب. فإن راجعها وجب إمساكها حتى تطهر واستحب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى. قال ابن حجر الشافعي: قيل الحكمة فيه أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإن أمسكها زماناً يحل فيه طلاقها ظهر فائدة الرجعة، لأنه قد يطول مقامها معه فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها.
الطلاق في طهر مسها فيه
* طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، أي طاهر من غير جماع، فإن طلقها في طهر مسها فيه أثم وهو طلاق محظور شرعاً للحديث السابق في طلاق الحائض وفيه " مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدَّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي وهو يشرح هذا الحديث: ففيه تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه.
* والحكمة في تحريم الطلاق في طهر مسها فيه، فلا يأمن الزوج من أنها قد حبلت بهذا الجماع، فإن طلقها ثم استبان حملها فقد يندم على ذلك، وأيضاً فإن طلقها بعد وطئها مع احتمال حبلها بهذا الوطء يجعل الزوج والزوجة في شك من عدتها: أتكون بوضع الحمل إذا تبيّن أنها حامل أم تكون عدتها بثلاثة قروء إذا لم تكن حاملاً، كما أن الطلاق للحاجة، والحاجة تظهر في الطلاق في طهر لم يجامعها فيه.
* يقع الطلاق مع إثم موقعه عند الجمهور الذين أوْقعوا الطلاق في الحيض مع إثم موقعه.
الطلاق في العدَّة
* العدَّة في الإصطلاح الشرعي: تربُّص يلزم المرأة عند زوال النكاح، فلا تستطيع أن تتزوَّج قبل انقضاء عدتها.
* الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل، فلزوجها أن يردَّها إذا شاء بإرادته دون توقف على رضاها مادامت في العدة فيزول كل أثر للطلاق سوى فقدان الزوج طلقة من طلقاته الثلاث التي يملك إيقاعها على زوجته. فهل يجوز للزوج أن يوقع عليها طلقة أخرى مادامت في العدة؟
: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المعتدة من طلاق رجعي يقع عليها الطلاق مادامت في العدة، لأنها تعتبر بحكم الزوجة لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل، قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: الزوجة الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه، ويرث أحدهما صاحبه بالإجماع .
: قال ابن تيمية: والرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة بناء على أن إرسال طلاقه على الرجعية في عدتها قبل أن يراجعها محرّم.
* الطلاق في العدة من طلاق بائن بينونة صغرى:
: لا يقع الطلاق في هذه العدة، وهذا قول الجمهور، قال الشافعي: لا يلحقها الطلاق لأن الطلاق تصرف في الملك بالإزالة، والملك قد زال بالخلع والإبانة وإزالة الزائل محال. وقال ابن قدامة: المختلعة لا يلحقها طلاق بحال.
: قال الحنفية: يقع الطلاق في العدة من طلاق بائن بينونة صغرى لأنها بالخلع والإبانة لم تخرج من أن تكون محلاً للطلاق.
* الطلاق في عدة البينونة الكبرى لا تكون المرأة محلاً لإيقاع الطلاق عليها لزوال الملك والحل للزوج، فلا يقع عليها طلاقه.
استقلال القضاء بين التشريع والواقع
نطاق المداخلة :
سأتناول في هذه المداخلة المسائل الآتية :
* مفهوم استقلال القضاء .
* الهدف من استقلال القضاء .
* مشمولات القضاء المستقل .
* النصوص الحامية لاستقلال القضاء .
* علاقة استقلال القضاء باستقلال مساعديه .
* عراقيل قانونية وواقعية تحول دون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكاملا .
* متطلبات تحقيق الاستقلال القضائي في التشريع وفي الواقع .
مفهوم استقلال القضاء :
يقصد باستقلال القضاء ، عدم جواز التدخل والتأثير من قبل الغير على ما يصدر عنه من إجراءات وقرارات وأحكام . والتدخل والتأثير مرفوض سواء كان ماديا أو معنويا وسواء تم بكيفية مباشرة أو غير مباشرة ، وبأية وسيلة من الوسائل . ويدخل في نطاق الممنوع من التدخل ، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، وغيرهما من أشخاص القانون العام والخاص ، كما يدخل في نطاقه الرؤساء الإداريون للقضاة وأطراف الدعوى …
ويقتضي استقلال القضاء من جهة أخرى وجوب امتناع القضاة من الاستجابة أو القبول أو الخضوع لأي تدخل أو تأثير . وتبعا لذلك فإن القضاة لا يمكن أن يستجيبوا ويخضعوا إلا لصوت القانون والضمير .
الهدف من استقلال القضاء :
الهدف من استقلال القضاء ومن حماية هذا الاستقلال هو تحقيق العدالة التي لا يمكن أن تتحقق في غياب أحد مقوماتها الأساسية وهو استقلال القضاة وحماية هذا الاستقلال من أي تدخل وتأثير …
مشمولات القضاء المستقل :
إن استقلال القضاء وحمايته يشمل استقلال قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة ، كما يشمل السـلـــك القضائي القضاة الذين يمارسون مهامهم بالإدارة المركزية بوزارة العدل ويستنتج ذلك من مقتضيات الدستور ( الفصل 82 ) ، ومن مقتضيات النظام الأساسي للقضاة ( الفصل 1 ) .
ويبرر استقلال النيابة العامة وحماية هذا الاستقلال ، كون النيابة العامة تختص ، من بين ما تختص فيه ، الأمر بإجراء الأبحاث في الجرائم المرتكبة ، وتقرير المتابعات ، وتقديم الملتمسات للمحكمة وتنفيذ قرارات وأحكام هذه الأخيرة ، وإذا اقتضى الأمر الطعن فيها ، ومن شأن استقلال النيابة العامة في ممارسة الاختصاصات المذكورة أن يبعد هذه الممارسة عن كافة أنواع التدخل والتأثير بما يحقق العدالة التي تتجلى من بين ما تتجلى في عدم الإفلات من العقاب بالنسبة لمن يستحقه وفي عدم متابعة ومعاقبة من لا يستحق المتابعة و العقاب …
واستقلال القضاة الذين يمارسون مهامهم بوزارة العدل يكون ضروريا ومبررا عندما تستند لهم مهمة تفتيش المحاكم أو البحث في وقائع محددة طبقا للفصل 13 من التنظيم القضائي …
النصوص المتعلقة بحماية استقلال القضاء :
من بين النصوص القانونية الحامية لاستقلال القضاء هي :
على المستوى الدستوري :
يتضمن الدستور عدة مقتضيات تنص على استقلال القضاء وتساهم ، في حدود معينة ، في حماية هذا الاستقلال . فالفصول 82 و 85 و 86 و 87 من الدستور تنص على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية ، ولا يعزل قضاة الأحكام و لا ينقلون إلا بمقتضى القانون ، وان المجلس الأعلى للقضاء ، الذي يتألف أغلبية أعضائه من قضاة منتخبين ، هو الذي يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم .
وحسب النظام الأساسي للقضاة ( الفصل 69 ) فإنه "لا يمكن ترقية القضاة المنتخبين بالمجلس الأعلى للقضاء من درجة لأخرى ولا نقلهم ولا انتدابهم مدة انتخابهم" .ويرمي هذا الفصل إلى حماية استقلال القضاء عن طريق حماية استقلال الممثلين لهم في المجلس الأعلى للقضاء من كافة التأثيرات المادية والمعنوية …
وعلى مستوى القانون الجنائي ، فإنه طبقا للفقرة الأولى من الفصل 266 ج فإنه يعاقب على : " الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية ، التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء ، قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما ." ويمكن اعتبار المس باختصاص القضاء نوعا من المس باستقلاله ، الامر الذي ينتج عنه أن المعاقبة على المس باختصاص القضاء كأنها معاقبة على المس باستقلاله . ومن المعلوم أن الفصل 239 ج يعاقب كل عامل أو قائد ممتاز أو قائد أو أي حاكم إداري آخر فصل في مسألة من اختصاص المحاكم وذلك في غير الحالات التي ينص عليها القانون ، ورغم معارضة الخصوم أو أحدهم .
على مستوى المسطرة الجنائية :
فإننا نرى ، بأن ما يطلق عليه " الامتياز القضائي" الذي يتمتع به القضاة ، وفق الفصول من 264 إلى 267 م ج ، التي تتضمن مقتضيات استثنائية خاصة بالبحث والتحقيق والمتابعة والمحاكمة ، الهدف منه ( من هذا الامتياز ) هو حماية استقلال القضاء .
علاقة استقلال القضاء باستقلال مساعديه :
لا يكفي تحقيق الاستقلال القضائي كعامل من العوامل المهمة في تحقيق العدالة وإنما يجب ، بالإضافة إلى ذلك ، يمتد هذا الاستقلال إلى مساعدي القضاة : ذلك أن هؤلاء الأخيرين ( القضاة )، إنما يتخذون القرارات ويصدرون الأحكام بناء على وثائق وإجراءات يساهم في إعدادها :
في النطاق الجنائي :
ضباط الشرطة القضائية على مستوى البحث التمهيدي .
قضاة التحقيق : على مستوى التحقيق الإعدادي .
المحامون
الخبراء
التراجمة
كتاب الضبط
إن كل هؤلاء المساعدين للقضاة والذين يساهمون في صنع ما يصدر عنهم من إجراءات وقرارات ، يجب أن ينص دستوريا عن استقلالهم عن الغير ، كما هو الأمر بالنسبة لقضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة ، وعلى حماية هذا الاستقلال الذي بدونه سيمس ويتأثر سلبيا استقلال القضاة .
عراقيل قانونية وواقعية تحول دون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكاملا :
إن النصوص القانونية الحالية ، الدستورية منها وغير الدستورية والتي استعرضناها غير كافية لحماية استقلال القضاء ، إذ أن هناك نصوصا قانونية متفرقة تفتح ثغرات واسعة تمكن السلطة التنفيذية على الخصوص من المساس باستقلال القضاء .
ومن جهة أخرى لا تكفي الحماية القانونية عبر النصوص بل يجب احترام هذه النصوص وعدم خرقها ، وفي حالة خرقها يجب إنزال العقاب المدني ( جبر الضرر ) والتأديبي وإذا اقتضى الأمر الجنائي …
ونستعرض فيما يلي العراقيل القانونية والعراقيل الواقعية .
أ – العراقيل القانونية :
لقد سن النظام السياسي المغربي عدة نصوص قانونية لا يمكن إلا أن تمس باستقلال القضاء وتفرغ الفصل 82 من الدستور من محتواه وخاصة في علاقة القضاء بالسلطة التنفيذية ( الملك كسلطة تشريعية في حالات معينة وتنفيذية ، ووزير العدل كسلطة تنفيذية ) ، إذ أعطى لهذه الأخيرة عدة منافذ قانونية للتأثير على القضاء وتوجيهه . ومن بين هذه المنافذ :
على مستوى السلطة الملكية :
إن الملك يرأس المجلس الأعلى للقضاء المختص بترقية القضاة و تأديبهم ( ف 86 و 87 ) .
والملك على مستوى التعيين ، يعين القضاة بالإدارة المركزية لوزارة العدل بظهير باقتراح من وزير العدل( الفصل 1 من النظام الأساسي للقضاة ن أ ق )، كما يعين الملحقين القضائيين الناجحين في الامتحان بظهير يصدر باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء قضاة في الرتبة الأولى من الدرجة الثالثة . ( ف 7 من ن أ ق ) . وفيما يخص التأديب فإن العقوبة من الدرجة الثانية ( التدحرج على التقاعد – الإقصاء المؤقت – الإحالة على التقاعد – العزل ) تصدر بظهير بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء . ومن المعلوم أن الظهائر الملكية ، غير قابلة لأي طعن قضائي حتى ولو كانت ذات طبيعة إدارية حسب ما ذهب المجلس الأعلى في عدة قرارات له صادرة في هذا الخصوص ومنها القرار الإداري عدد 15 الصادر في 20/3/ 1970 والذي قضى بعدم اختصاصه للبث في الطلب الرامي إلى إلغاء مرسوم ملكي صادر في 11 / 6 / 68 ، معللا قراره بما يلي : " وحيث إن جلالة الملك يمارس اختصاصاته الدستورية بوصفه أمير المؤمنين طبقا للفصل 19 من الدستور ، لا يمكن اعتباره سلطة إدارية بالنسبة لتطبيق الفصل الأول من ظهير 27 شتنبر 1957 ."
وعلى مستوى وزير العدل : فإن هذا الأخير يرأس المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الملك ، ( ف 86 د ) ، ويهيئ ويحصر سنويا لائحة الأهلية لترقي القضاة بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء ( مجرد استشارة ) ( ف 23 من ن . أ . ق ) كما يمكن لوزير العدل وبدون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء ، أن ينتدب بقرار عند الحاجة قاضيا بدعوى ملأ فراغ في قضاء الحكم أو التحقيق أو النيابة العامة بإحدى المحاكم وذلك لمدة ثلاثة أشهر في السنة ( ف 57 ن أ ق ) ، كما يمكن لوزير العدل وبدون استشارة المجلس الأعلى للقضاء توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه وذلك في حالة ما إذا توبع هذا الأخير جنائيا أو ارتكب خطأ خطيرا . ويمكن أن يشمل التوقيف عدم صرف الراتب طول مدة التوقيف ( ف 62 من ن أ ق ). وبالإضافة إلى كل ذلك فإن العقوبات التأديبية من الدرجة الأولى تصدر ضد القضاة بقرار من الوزير بعد استشارة ( مجرد استشارة ) المجلس الأعلى للقضاء وتشمل عقوبات الدرجة الأولى الإنذار والتوبيخ عن التأخير من رتبة إلى رتبة أعلى لا تتجاوز سنتين ، والحذف من لائحة الأهلية ( الفصلان 60 و 59 من ن أ ق ) . ومع أن سن التقاعد للقضاة هو ستون ، فإن وزير العدل يمكنه السعي في تمديد هذا الحد لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرتين لنفس الفترة بمقتضى ظهير وباقتراح منه بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء .
كما يهيمن وزير العدل على انتخاب القضاة الستة الأعضاء في المجلس الأعلى للقضاء : فهو الذي يحدد تاريخ الانتخاب وعدد مكاتب التصويت والدوائر ، وتحضير لوائح الناخبين وتعليقها وإمكانية الطعن فيها ، وهو الذي يبث في هذه الطعون . وهو الذي يعين أعضاء مكاتب التصويت باقتراح من الرئيس الأول للمجلس الأعلى والوكيل العام به والإعلام بتاريخ الفرز ( مرسوم 882 . 75 . 2 المؤرخ في 20 ذي الحجة 1395 الموافق لـ 23 / 12 / 75 المتعلق بانتخاب ممثلي القضاة كما تم تعديله وتتميمه )
ووزير العدل هو الذي يعين قضاة التحقيق لدى المحاكم الابتدائية والاستئنافية ويعفيهم .
إن النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة لا يمكنها تحريف الدعوى العمومية إلا بأمر كتابي من وزير العدل ( ف 8 من قانون محكمة العدل الخاصة ) .
وطبقا للفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية ، فإن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها وله أن يبلغ للوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي ، وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك ، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية … ويسوغ لوزير العدل أن يعين قاضيا أو عدة قضاة من المجلس الأعلى أو ممن يزاولون عملهم بالإدارة المركزية بالوزارة للقيام بتفتيش المحاكم غير المجلس الأعلى أو للبحث في وقائع محددة … ( الفصل 13 من الظهير بمثابة قانون للتنظيم القضائي رقم 338 . 74 . 1 المؤرخ في 24 ج الثانية 1394 الموافق لـ 17 / 7 / 74 كما وقع تعديله وتتميمه ) .
إن الظهير بمثابة قانون رقم 339 . 74 . 1 بتاريخ 24 ج 2 1394 ( 15 / 7 / 74 ) المتعلق بتنظيم محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات ، يتضمن العديد من المقتضيات الماسة بمبدأ استقلال القضاء عن طريق هيمنة السلطة التنفيذية ، سواء تجلت هذه السلطة في وزارة العدل أو في غيرها …
ب – الأسباب والعراقيل الواقعية التي تحول دون الاستقلال الحقيقي للقضاء :
بالإضافة إلى الجوانب أو الأسباب القانونية التي تحول دون استقلال القضاء ، هناك أسباب واقعية تساهم بدورها في عرقلة استقلال القضاء والتي من بينها :
1 – الوضع العام الفاسد في البلاد والذي يعمل القضاء في ظله متأثرا به ومؤثرا فيه والمتجسد في عدم وجود دستور ديمقراطي في إعداده وفي محتواه والدستور الحالي ، كسابقه تنقصه العديد من المبادئ و الضمانات وتهيمن فيه السلطة الملكية على باقي السلط ، وفي عدم وجود مؤسسات تشريعية ومحلية ومهنية منتخبة انتخابا حرا ونزيها تعبر عن إرادة المواطنين وآمالهم ورغباتهم وطموحاتهم .
2 – عدم احترام السلطة التنفيذية لمبدأ سيادة القانون واحترامه بالتطبيق له وعدم خرقه ، والثابت أن بعض رموزها ومسؤوليها النافدين يتدخلون ، بكيفية مباشرة وغير مباشرة في أعمال السلطة القضائية مع أن القانون يعاقب على هذا التدخل ( الفصل 238 من القانون الجنائي ) .
3 –هناك المحسوبية والحسابات المصلحية في تعيين القضاة وفي ترقيتهم بالرغم من عدم توفر الشروط والمقاييس القانونية ، الأمر الذي يسمح بالتسرب لمؤسسة القضاء وتحمل المسؤولية فيه لنوع من القضاة لا تتوفر فيه الكفاءة والنزاهة والجرأة الأدبية والشعور بالمسؤولية وبالأمانة المفروض توفرها في القضاة والتي من شانها أن تؤهلهم لمقاومة أي تدخل قد يمس باستقلالهم وبكرامتهم ، بل أن بعض هذا النوع من القضاة ، يستجيبون بصفة تلقائية لتوجهات الدولة وحتى في الحالات التي لا يتلقون فيها تعليمات بشأن ما يجب عليهم عمله .
4 – إن الحكم يتعمد عدم توفير الإمكانيات المادية الكافية والبشرية المكونة التي من شأنها أن ترفع من حرمة القضاء وفعاليته وإنتاجه الكمي والنوعي ومن مناعته وحصانته وبالتالي من قدرته على مقاومة كافة الضغوطات والإغراءات ... متطلبات تحقيق استقلال حقيقي على المستوى التشريعي والمستوى الواقعي وعلاقتها بتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية :
يجب التذكير إلى أن استقلال القضاء ولو كان كاملا ، لا يكفي وحده لتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية على المستوى السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي : فاستقلال القضاء وحده لا يكفي للوصول إلى العدالة حتى ولو تم تحقيق هذا الاستقلال بصورة كاملة من الناحية القانونية .
ذلك أن متطلبات تحقيق العدالة في الأحكام والقرارات القضائية ذات شقين : شق عام له علاقة غير مباشرة باستقلال القضاء ، وشق خاص ذو علاقة مباشرة باستقلال القضاء :
أولا : المتطلبات العامة لتحقيق العدالة في الأحكام والقرارات القضائية :
من بين المتطلبات العامة :
1 – أن تكون القوانين التي يطبقها القضاة عادلة وهي لن تكون كذلك إلا إذا كانت مرتكزة على مبادئ حقوق الإنسان في شموليتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية ، ومثل هذه القوانين لن تتحقق إلا عبر دستور ديموقراطي في إعداده وفي محتواه ، وذلك على اعتبار أن الدستور هو الذي يحدد الاختيارات التي ترتكز عليها القوانين ويرسم العلاقة بين السلط ومن بينها السلطة القضائية كما يضع أسس حماية استقلال القضاء . كما أن القوانين العادلة لا يمكن أن تصدر إلا عن برلمان منتخب انتخابا حرا ونزيها أي معبر عن إرادة شعبية حقيقية .
وبما أن القوانين العادلة تهم أغلبية الشعب المستغلة والمقهورة والمظلومة ، فإنه يصبح من الضروري والواجب على القوى الديمقراطية المساهمة في توعية هذه الجماهير بحقوقها والانخراط في نضالها من اجل تحقيق القوانين العادلة .
2 – ولا يكفي وجود قوانين عادلة بل يجب السهر والعمل على تطبيق هذه القوانين وإلا كان وجودها مثل عدمها ، ويقتضي العمل على تطبيقها معاقبة من يخرقها والسهر على عدم الإفلات من العقاب الإداري والعقاب القضائي في شقيه الجنائي والمدني …
وبما أن المغرب عرف ولا زال يعرف الإفلات من العقاب ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الخطيرة المرتكبة من طرف أجهزة الدولة ومن ذوي النفوذ ، فإنه يصير من المتعين على جميع القوى الديمقراطية السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والمهنية المزيد من توحيد وتصعيد نضالها لفرض عدم الإفلات من العقاب .
ثانيا : المتطلبات الخاصة التي لها علاقة مباشرة بتحقيق استقلال القضاء :
من بين هذه المتطلبات ماله علاقة بالجانب التشريعي . ومن بينها ما له علاقة بالواقع .
المتطلبات التشريعية :
إن المتطلبات التشريعية تقتضي ، من بين ما تقتضي ، إزالة جميع الثغرات القانونية التي تعرقل استقلال القضاء والتي أشرنا إلى بعضها :
وتقتضي الإزالة :
أ – على المستوى الدستوري :
1 ) أن تعاد صياغة الفصل 82 من الدستور ( النص العربي ) ليبرز فيه القضاء كسلطة مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية .
2 ) يعاد النظر في تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء وفي مستوى صلاحياته : ففيما يخص تشكيلة ، أن يصبح مكونا فقط من القضاة المنتخبين وتحت رئاسة الرئيس الأول للمجلس الأعلى . وفيما يخص صلاحياته أن تصبح هذه تقريرية لا استشارية كما هو الأمر حاليا …
3 ) أن تمتد الحماية الواردة في الفصل 85 دستور لتشمل قضاة النيابة العامة بدل اقتصارها على قضاة الأحكام بحيث يصبح هذا الفصل كالتالي :
(( لا يعزل قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون )) .
كما يجب النص على استقلال مساعدي القضاة وحماية هذا الاستقلال .
ب – على المستوى القانوني :
1 – إنهاء كافة أنواع هيمنة وزير العدل القانونية على وضعية وعمل القضاة (قضاة النيابة العامة وقضاة الأحكام ) ونقلها إلى جهاز محايد مستقل تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية . ولا يمكن أن يكون هذا الجهاز إلا المجلس الأعلى للقضاء مع التشديد في الشروط الواجب توفرها في المرشح للعضوية في هذا المجلس على مستوى الكفاءة والفعالية
2 – فيما يخص تحريك الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة بناء على أمر كتابي من وزير العدل ، فإن هذه الصلاحية ستنتهي بانتهاء نفس المحكمة . ويجب أن يتبع انتهاؤها إلغاء المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية التي تعتبر غير مستقلة عن إدارة الدفاع الوطني بحيث إن إجراء البحث والمتابعة وانعقاد جلساتها لا يمكن أن يتم كل ذلك إلا بأمر من الوزير المكلف بإدارة الدفاع الوطني ( المواد 10 و 81 و 32 و 33 من مدونة العدل العسكري ) . ومن جهة أخرى فإن هذه المحكمة الاستثنائية لا تتوفر في مسطرة تنظيمها واختصاصاتها وأحكامها شروط المحاكمة العادلة …
3 - فيما يخص المادة 51 من المسطرة الجنائية ، فإن دور وزير العدل يجب أن يقتصر على الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية وتبليغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها ، وأن يبلغ هؤلاء ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي دون أن يتعدى ذلك إلى إصدار أمر للنيابة العامة بمتابعة مرتكبيها أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية .
وقد أثبثت التجربة أن مختلف وزراء العدل الذين تعاقبوا منذ فجر الاستقلال لغاية تاريخه اقتصروا في الأوامر الموجهة إلى النيابة العامة على متابعة معارضي الحكم في الجرائم السياسية ولم يفعلوا نفس الشيء إزاء أعوان السلطة المرتكبين للجرائم السياسية الفظيعة ضد المعارضين السياسيين …
4 – يجب إلغاء محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات لعدم توفرها على شروط الاستقلال إزاء السلطة التنفيذية بالإضافة إلى عدم توفر القانون المنظم لها على الضمانات والشروط التي تسمح بصدور أحكام عادلة عنها ..
5 – يجب سن عقوبة جنائية تطبق على القضاة الذين لا يتمسكون باستقلالهم الدستوري ويخضعون لمختلف التأثيرات والتوجيهات والتعليمات كيفما كان مصدرها …
المتطلبات الواقعية :
إن المتطلبات الواقعية لتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية تقتضي من بين ما تقتضيه ، بالإضافة إلى تحقيق استقلال القضاة ، نزاهة هؤلاء و كفاءتهم ، وشعورهم بالمسؤولية وبالأمانة التي يتحملونها واستعدادهم وقدرتهم على استقلالهم . إن كل ذلك يفرض ما يلي :
1 ) يجب على القضاة تبليغ المجلس الأعلى للقضاء كافة أنواع التدخلات في اختصاصاتهم القضائية كيفما كان مصدرها وخاصة تلك الصادرة عن السلطة التنفيذية ، وعلى المجلس الأعلى للقضاء اتخاذ ما يجب لمتابعة المتدخلين جنائيا وإداريا …
2 ) يجب على القضاة أن يكونوا جمعية تدافع عن مصالحهم المادية والمعنوية وتحمي استقلالهم ، وتنظف صفهم من المنحرفين …
3 ) يجب على الدولة المغربية السعي باستمرار على الرفع من مكانة القضاء والقضاة ، وذلك سواء على مستوى التكوين المستمر أو على مستوى الزيادة في الأجور والتعويضات للقضاة ولكتاب الضبط و في الإمكانيات البشرية والمادية ، سواء من ناحية الكم أو النوع …
4 ) وأخيرا وليس بالأخير ، فإن على ممثلي مختلف مكونات المجتمع المغربي السياسية والنقابية والحقوقية والاجتماعية العمل باستمرار على الدفاع عن استقلال القضاء وحمايته والتصدي بكل حزم ضد كل من يمس بهذا الاستقلال أو يحاول المساس به …
روابح فيصل

اساليب نشأة الدساتير

مقدمة


تتنوع الأساليب التي تنشأ بها الدساتير بتنوع أنظمة الحكم في العالم. وذلك لأن كل دستور هو نتاج للأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة به، وعلى وجه الخصوص مستوى التطور الذي بلغه النظام السياسي وتبعا لدرجة التطور الديمقراطي في كل دولة من هذه الدول، وكذا لتقاليدها وخبراتها السياسية ، وهى تتطور بتطور أنظمة الحكم في كل دولة من الدول، ففي ظل الأنظمة السياسية القديمة القائمة على الحكم المطلق حيث لا حدود ولا قيود على سلطات الحكام لم تنشأ الدساتير المكتوبة، لأن هذه الدساتير ما نشأت إلا لتقييد سلطات الحكام والحد منها، ولكن مع انتشار الأفكار الديمقراطية، والرغبة في الحد من الحكم المطلق، ظهرت الحاجة إلى تدوين الدساتير، من أجل تحديد الواجبات والحقوق لكل من الحكام والمحكومين. بإتباع طرق تختلف باختلاف الدولة ودرجة النضج السياسي لدى الرأي العام فيها. وقد يلعب الأسلوب الذي يتبع في وضع الدستور دوراً هاما في كشف المذهب السياسي الذي ينطوي عليه. فما هي هذه الأساليب المتبعة التي تنشأ بواسطتها الدساتير؟ .. هذا السؤال يطرح مبحثا مهما للغاية، للإجابة عليه يتطلع هذا البحث إلى تقديم إجابات محددة وبسيطة، استنادا بالدرجة الأولى ببعض المراجع العربية المتوفرة عن هذا الموضوع ومن خلال الإرشادات داخل الحصة من طرف الأستاذة. وبالنسبة لعناصر البحث فقد قمنا بتقسيمها إلى أربع مباحث موضحة في خطة البحث..
















خطة البحث

§ المبحث الأول: ظهور الدساتير.
ü المطلب الأول: تاريخ ومكان ظهور أول دستور.
ü المطلب الثاني: أسباب ودوافع وضع الدساتير.

§ المبحث الثاني: الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير.
ü المطلب الأول: أسلوب المنحة.
ü المطلب الثاني: أسلوب العقد أو الاتفاق.

§ المبحث الثالث: الأساليب الديمقراطية لنشأة الدساتير.
ü المطلب الأول: أسلوب الجمعية التأسيسية.
ü المطلب الثاني: أسلوب الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء الدستوري.

§ المبحث الرابع: طرق وضع الدساتير الجزائرية.
ü المطلب الأول: دستـور 10 سبتمبر 1963.
ü المطلب الثاني: دستـور 22 نوفمبر 1976.
ü المطلب الثالث: دستـور 23 فيفري 1989.
ü المطلب الرابع: دستـور 28 نوفمبر 1996.







المبحث الأول
ظهور الدساتير

تنشأ الدساتير بأساليب مختلفة ومتعددة، وقبل التعرض لأساليب نشأتها يتوجب علينا بحث تاريخ، مكان وأسباب ظهورها والتطور الذي عرفته بفعل تزايد مهام الدولة.

1. تاريخ ومكان ظهور أول دستور:
إذا رجعنا لتاريخ العالم الإسلامي نجد أن أول دستور عرف بالمفهوم الفني الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف "بالصحيفة"، تلك الوثيقة التي أعدها رسول الإسلام لتنظيم أحوال دولة المدينة بعد أن انتقل إليها من مكة.
البعض يرى بأن الحركة الدستورية أو أول بداية لظهور الدستور تعود إلى القرن الثالث عشر وبالتحديد سنة 1215 عندما منح الملك جان ستير الميثاق الأعظم للنبلاء الانجليز الثائرين عليه. والبعض الآخر يؤكدون بأن تاريخ ظهور الحركة الدستورية الأولى بدأت تظهر معالمها في القرن السابع عشر عندما وضع الجناح المؤيد لكرومويل في المجلس العسكري دستورا، وان كان البرلمان وكرومويل ذاته لم يساندا ذلك المشروع فبقي كذلك بحيث لم يعرض على الشعب، وان كانت بعض نصوصه اعتمدت فيما بعد لتنظيم السلطة وعادت فيما بعد مصدرا لتنظيم السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية(1).
1- سعيد بوشعير، القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، الجزء الأول، 1989.أما أول الدساتير المكتوبة ظهرت في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية كرد فعل للانفصال عن إنكلترا، فأول دستور عرفه العالم الغربي في ولاية فرجينيا دستور جوان 1776، وقد سابقه الإعلان للحقوق الذي يعتبر القاعدة الأساسية لأي حكومة في فرجينيا، ثم تلى ذلك في عام 1781 صدور دستور الاتحاد التعاهدي، وفي عام 1787 صدر الدستور الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية. فالمثل الأمريكي كان سببا لاقتداء العديد من الدول به كفرنسا مثلا، عرفت أول دستور مكتوب عام 1791، وقد سبقها قبل ذلك إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدقت عليه الجمعية الوطنية في أوت 1789. فقد أصبحت الدساتير المكتوبة من خصائص الدول الحديثة، نتيجة لرواج الأفكار الديمقراطية والحركات السياسية التي نادت بمبدأ السيادة الشعبية، وبلورة فكرة العقد الاجتماعي، ومبدأ الفصل بين السلطات...أمام هذه المزايا العديدة انتقات فكرة الدساتير المكتوبة الى العديد من الدول الأوروبية، فصدر دستور السويد سنة 1809، والنرويج وبلجيكا سنة 1831، وعلى إثر الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية للحد من التعسف في استعمال السلطة فصدر دستور روسيا يوم 10 يوليو 1918، فدستور تركيا 1924ودستور النمسا 1 أكتوبر 1920 (1).

2. أسباب ودوافع وضع الدساتير:
إن انهيار الحكم الملكي المطلق بعد الثورات الأوربية وسيطرة البرجوازية على السلطة إلى جانب ظهور فكرة القومية وانحسار الاستعمار كانت من الأسباب والدوافع الرئيسية في دسترة أنظمة الحكم، وكان غرض شعوب تلك الأنظمة إثبات سيادتها الداخلية واستقلاليتها، وذلك بواسطة تنظيم الحياة السياسية بوضع دستور يبين السلطات وعلاقاتها في الدولة الجديدة وعلاقاتها بالمحكومين والدول الأخرى. وأن هذه الدول بوضع الدستور تؤهل نفسها لإقامة حوار بين السلطة والحرية فكأنها تعلن للغير بأنها وصلت إلى مرحلة النضج السياسي، ولها الحق في الانضمام للمجتمع الدولي(2). وكما أشرنا سابقا على إثر الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية، بحيث حددت اختصاصات الحكام ومدى السلطات التي تحت أيديهم والواجبات المفروضة عليهم حتى لا تتكرر نفس التجربة (التعسف في استعمال السلطة)، كما أن حركة التحرر، ساهمت بشكل فعال في انتشار هذه الظاهرة، بالأخص إذا علمنا أن أغلب هذه الدول تفتقر إلى رصيد دستوري، كانعدام حياة دستورية سابقة..أو عدم وجود أعراف سابقة..كل هذا كان سببا مباشرا لوضع دستور مكتوب الى جانب ضرورة اقتناء وتدوين وثيقة دستورية للإنضمام في المجتمع الدولي مثل غينيا قد اعلن عن استقلالها يوم 02 أكتوبر 1958، وفي ذلك الوقت كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة منعقدة، ولكي يضمن الرئيس سيكوتوري الحصول على الموافقة، أصدر دستور في 10 نوفمبر 1958، واعلنت الأمم المتحدة عن قبولها كعضو في 12 نوفمبر 1958. وفي الكويت دستور 1962 إذ كانت قد قبلت في جامعة الدول العربية في 30 يوليو 1961 بمجرد اعلان استقلالها في 19 يونيو 1961، فإنها لم تقبل في المم المتحدة ولم تنظم الى المجتمع الدولي إلا في 14 مايو 1963 أي بعد صدور دستورها في 11 نوفمبر 1962، وإذا كانت حركة الدساتير المكتوبة قد سادت الدول العربية، إلا أن بعض دول الخليج تفتقر إلى دستور مكتوب ولا يوجد فيها دستور مدون على نسق الدساتير المعاصرة(3).






1-3- فوزي أوصديق، الوافي في شرح القانون الدستوري. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، 1994، ص40.
2- سعيد بوشعير، مرجع سبق ذكره، ص139.

المبحث الثاني
الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير

يمكن تعريف الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير بأنها الأساليب التي لا يستأثر الشعب وحده في وضعها، وإنما الذي يضعها هو الحاكم وحده (منحة) أو بالاشتراك مع الأمة أو الشعب (عقد). وهما أسلوبان تزامنا مع تطور الملكية من ملكية مطلقة إلى ملكية مقيدة(1).

1. أسلوب المنحة:
يصدر الدستور في شكل منحة إذا تنازل الحاكم بإرادته المنفردة عن بعض سلطاته للشعب، أو أن يحددها ببعض القيود، بواسطة قواعد قانونية يمن بها على شعبه في صورة دستور. والأصل في هذه الدساتير أن الحاكم هو مصدر السلطات، ومنبع الحقوق والحريات، يجمع بين يديه الوظائف والاختصاصات، ومن بينها الاختصاص التأسيسي. غير أن انتشار الأفكار الديمقراطية، ونضج وعي الشعوب بحقوقها، والدعوة إلى الحد من من السلطان المطلق، دفع الحكام إلى منح شعوبهم دساتير، تنازلوا بموجبها عن جزء من سيادتهم، ليظهروا بمظهر المتفضلين على شعوبهم، قبل أن تجبرهم الأوضاع على التنازل عن جٌل سيادتهم، وبالتالي يفقدون هيبتهم وكرامتهم.وهكذا؛ وعلى الرغم من أن الشكل الخارجي للدستور الصادر بطريق المنحة يظهر على أنه عمل قانوني صادر بالإرادة المنفردة للحاكم، فإن الدستور لم يكن ليصدر إلا نتيجة لضغط الشعوب على حكامها، ووعيها بحقوقها، وخوف الحاكم من ثورتها وتمردها. ويسجل لنا التاريخ أمثلة كثيرة لدساتير صدرت بطريق المنحة، ومنها الدستور الفرنسي لعام 1814 الذي أصدره لويس الثامن عشر للأمة الفرنسية ، وجدير بالذكر إن معظم دساتير الولايات الألمانية في القرن التاسع عشر صدرت بهذه الطريقة. ومن أمثلة الدساتير الممنوحة كذلك: الدستور الإيطالي لعام 1848 والدستور الياباني لعام 1889، ودستور روسيا لسنة 1906، وإمارة موناكو لعام 1911، وكذلك الدستور المصري لعام 1923، ودستور إثيوبيا لعام 1931، والقانون الأساسي لشرقي الأردن لعام 1926، ودستور الإمارات العربية المتحدة لسنة 1971 وكذلك الدستور القطري لسنة 1971(2). ونتيجة لصدور الدستور بطريقة المنحة يثور تساؤل هام، حول قدرة الحاكم الذي منح الدستور هل له الحق في سحبه أو إلغائه ؟ وللإجابة على هذا السؤال انقسم الفقه إلى اتجاهين :-
1- نعمان أحمد الخطيب، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري. الطبعة الأولى، الإصدار الأول، الأردن: مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1999، ص482.
2- فاطمة سعيد. ”أساليب نشأة الدساتير“.البحرين: منتديات البحرين، http://forum.montadayat.org، 2002م.
* يذهب أولهما إلى قدرة الحاكم على استرداد دستوره طالما كان هذا الدستور قد صدر بإرادته المنفردة، عل شكل منحة، لأن من يملك المنح يملك الاسترداد. يساند هذا الرأي أمثلة حدثت فعلاً، حيث أصدر شارل العاشر
ملك فرنسا قراراً ملكياً عام 1830 بإلغاء دستور عام 1814، تحت حجة أن المنحة أو الهبة في الحقوق العامة تشبه الهبة في الحقوق الخاصة، وكما يحق للواهب الرجوع عن الهبة. يحق للملك الرجوع عن دستوره، إذا صدر عن الشعب جحود للمنحة ونكران للجميل.
*ويذكر ثانيهما على الحاكم حق استرداد دستوره، ما دام هذا الدستور قد صدر، حيث تترتب عليه حقوق للأمة، فلا يحق للحاكم - عندها - المساس به إلا بالاستناد إلى الطرق القانونية المقررة بالدستور نفسه، حتى التسليم بأن صدور الدستور كان وليداً للإرادة المنفرد للحاكم، لأن هذه الإرادة تصلح أن تكون مصدراً للالتزامات، متى ما صادفت قبولاً من ذوي الشأن. وجدير بالإشارة أن الدستور الصادر بطريقة المنحة يدرس على اعتبار أنه مرحلة تاريخية، تمثلت بالانتقال من الملكيات المطلقة إلى الملكيات المقيدة، وقد انقضت وانتهت هذه المرحلة منذ زمن، نتيجة لزوال الحكم الفردي، واستعادة معظم الشعوب لكامل حقوقها في السيادة والسلطة. ومع ذلك، فما زالت بعض الدساتير تعتمد على الإرادة المنفردة للحاكم، في نشأتها وفي إصدارها، منذ تسلمه للسلطة وحتى مماته، وإن أمكن استبداله بغيره...وقائمة الدساتير التي صدرت بهذه الطريقة كبيرة. ولنا بعالمنا العربي أمثلة متعددة، حتى أن بعضها لا يزال نافذاً إلى يومنا هذا(1).

2. أسلوب العقد أو الاتفاق:
1- فاطمة سعيد. ”أساليب نشأة الدساتير“.البحرين: منتديات البحرين، http://forum.montadayat.org، 2002م.ينشأ الدستور وفق طريقة العقد بناء على اتفاق بين الحاكم من جهة والشعب من جهة أخرى. أي لا تنفرد إرادة الحاكم بوضع الدستور كما هو الحال في صدور الدستور على شكل منحة، وإنما يصدر الدستور تبعاً لهذه الطريقة بتوافق إرادتي كل من الحاكم والشعب. ويترتب على ذلك ألا يكون بمقدور أي من طرفي العقد الانفراد بإلغاء الدستور أو سحبه أو تعديله. وعلى هذا النحو تٌمثل طريقة العقد أسلوباً متقدماً على طريقة المنحة، لأن الشعب يشترك مع الحاكم في وضع الدستور في طريقة العقد، بينما ينفرد الحاكم بوضع الدستور في طريقة المنحة. وبناء على ذلك؛ يعد أسلوب العقد مرحلة انتقال باتجاه الأساليب الديمقراطية. خاصة وأن ظهور هذا الأسلوب - لأول مرة - كان نتيجة لنشوب ثورات، في كل من انجلترا وفرنسا. ففي إنجلترا ثار الأشراف ضد الملك جون، فأجبروه على توقيع العهد الأعظم في عام 1215، الذي يتعبر مصدراً أساسياُ للحقوق والحريات. وبنفس الطريقة؛ تم وضع وثيقة الحقوق لعام1689 بعد اندلاع ثورة ضد الملك جيمس الثاني، حيث اجتمع ممثلون عن الشعب، ووضعوا هذه الوثيقة، التي قيدت سلطات الملك، وكفلت الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وتمت دعوة الأمير وليم الأورنجي لتولي العرش، على أساس الالتزام بالقيود
الواردة بالوثيقة. وتشكل هاتان الوثيقتان جزءاً هاماً من الدستور الإنجليزي الذي يتكون معظمه من القواعد العرفية.أما في فرنسا فقدر صدر أول دستور فيها بطريقة العقد إثر ثورة سنة 1830 ضد الملك شارل العاشر، ووضع مشروع دستور جديد من قبل جمعية منتخبة من قبل الشعب، ومن ثم دعوة الأمير لويس فيليب لتولي العرش، إذا قبل بالشروط الواردة بالدستور الجديد. وبعد قبول الأمير بهذه الشروط نودي به ملكاً على فرنسا.ويشار كذلك؛ إلى أن جميع الدساتير التي صدرت بطريقة العقد كانت من عمل جمعيات منتخبة، والأمثلة على هذا النوع من الدساتير عديدة نذكر منها الميثاق الأعظم في انجلتلرا سنة 1215 الذي هو جزء من دستور انجلترا، وكذلك قانون الحقوق الصادر سنة 1688 في نفس البلد، ودساتير كل من اليونان لسنة1844، ورومانيا لسنة 1864، وبلغاريا لسنة 1979، والقانون الأساسي العراقي لعام 1925، والدستورين الكويتي لسنة 1962 والبحريني لسنة 1973. حيث وضعت المجالس التشريعية في هذه الدول الدساتير المذكورة، ثم دعت أمراء أجانب لتولي العرش على أساس الالتزام بأحكامها. وعلى الرغم من أن أسلوب العقد يعد أسلوبا تقدمياً أكثر من أسلوب المنحة، فإنه لا يعد أسلوبا ديمقراطيا خالصاً، لأنه يضع إرادة الحاكم على قدم المساواة مع إرادة الشعب، بينما تفترض الديمقراطية أن يكون الشعب هو صاحب السيادة، لا يشاركه فيها ملك ولا أمير.













المبحث الثالث
الأساليب الديمقراطية لنشأة الدساتير

يمكن تعريف الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير، بأنها الأساليب التي تستأثر الأمة وحدها في وضعها دون مشاركة الحاكم ملكا كان أو أميرا أو رئيسا للجمهورية. وبغض النظر عن التفصيلات والإجراءات المتبعة في وضع الدساتير داخل إطار هذا المفهوم الديمقراطي في وضع الدساتير، يمكن جمع هذه الأساليب في أسلوبين رئيسيين هما الجمعية التأسيسية وأسلوب الاستفتاء الشعبي(1).

1. أسلوب الجمعية التأسيسية:
تعد نشأة الدساتير وفقاً لهذا الأسلوب منطلقة من مبدأ السيادة الشعبية، كما ينظر إليه أيضاً على أنه من الأساليب الديمقراطية لخلق الدساتير حيث يمثل مرحلة أكثر تقدماً في نضال الشعوب ضد الحاكم المطلق.
ويصدر الدستور وفقاً لأسلوب الجمعية التأسيسية من مجلس أو جمعية تنتخب بصفة خاصة من الشعب ونيابة عنه، يعهد إليها بمهام وضع وإصدار دستور جديد يصبح واجب النفاذ. ولذا فإن هذه الجمعية التأسيسية أو كما يطلق عليها البعض اسم الجمعية النيابية التأسيسية هي في الواقع تجمع كل السلطات في الدولة فهي سلطة تأسيسية تشريعية وتنفيذية. وهذا الأسلوب في وضع الدساتير هو الذي تم إتباعه في وضع معظم الدساتير التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. وكأمثلة تاريخية على أسلوب الجمعية التأسيسية نذكر دساتير الولايات المتحدة الأمريكية عقب استقلالها من إنجلترا عام 1776م كما اتخذته أمريكا أسلوباً في وضع وإقرار دستورها الاتحادي لعام 1787م وقد انتشرت هذه الطريقة فيما بعد فاعتمد رجال الثورة الفرنسية هذا الأسلوب من ذلك دستور فرنسا لعام 1791م، وعام 1848م، وعام 1875م، وقد انتهج هذه الطريقة كل من اليابان عام 1947م، والدستور الإيطالي عام 1947م، والدستور التشيكوسلوفاكي عام 1948م، والدستور الروماني عام 1948م، والدستور الهندي 1949م، والدستور السوري عام 1950 وتعد هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من الطريقتين السابقتين، إذ أن الدستور يقوم بوضعه في هذه الحالة جمعية منتخبة من الشعب.
كما أن هذه الطريقة تحتوي على العديد من المخاطر يمكن تلخيصها كالآتي:
1- نعمان أحمد الخطيب، مرجع سبق ذكره ، ص486.
احتمال انحراف الجمعية التأسيسية عن غرضها المنشود، بتفوق السلطة التشريعية على باقي السلطات الأخرى، لكون أغلب الأعضاء فيها تراودهم فكرة الترشح للمرة الثانية.
الاعتماد على فكرة الجمعية التأسيسية يحتمل فيها استحواذ هذه الأخيرة على جميع الاختصاصات، مما قد يخلق عجزا وانسدادا أثناء معالجة المشاكل الشائكة وقت الأزمات.
احتمال رفض الشعب للجمعية التأسيسية بعد إقرارها للدستور، وهذا فعلا ما حدث في دستور الجمعية الفرنسية الرابعة سنة 1946م، مما بدد الطاقات والمجهودات(1).

2. أسلوب الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء الدستوري:
ينشأ الدستور وفقاً لهذا الأسلوب من خلال الإرادة الشعبية الحرة، إذ يفترض أن يقوم الشعب أو يشترك بنفسه في مباشرة السلطة التأسيسية، في هذه الحالة يصدر الدستور مباشرة من الشعب الذي يوكل الأمر إلى جمعية منتخبة تكون مهمتها وضع مشروع الدستور أو إلى لجنة معينة من قبل الحكومة أو البرلمان إن وجد، ومن أجل أن يكون استفتاء دستوري يجب أن تكوّن أولا هيئة أو لجنة تقوم بتحضير مشروع الدستور وعرضه على الشعب لاستفتائه فيه، لأخذ رأي الشعب في مشروع الدستور ، ولكن هذا المشروع لا تصبح له قيمة قانونية إلا بعد عرضه على الشعب واستفتائه فيه وموافقته عليه. علماً بأنه ليس بلازم أن تقوم بوضع الدستور -المراد الاستفتاء عليه- جميعة تأسيسية نيابية، وإنما يفترض أن تكون هناك هيئة أو جمعية أو لجنة أو شخصية، قد أسند إليها وقامت بالفعل بإعداد مشروع الدستور، كما حدث بالنسبة لبعض دساتير العالم. ولا يختلف الأمر إذا كانت هذه الجمعية أو اللجنة التحضيرية للدستور منتخبة أو معينة، إذ تقتصر مهمتها على مجرد تحضير الدستور فحسب تمهيداً لعرضه على الشعب للاستفتاء عليه بالموافقة أو بالرفض، ويعتبر تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء هو الفصل في بدء سريان الدستور والعمل بأحكامه.
وإذا كان بعض الفقهاء قد ذهب إلى عدم اعتبار أسلوب الاستفتاء الشعبي أسلوبا متميزا عن أسلوب الجمعية التأسيسية أي عدم التفرقة بين الجمعية التأسيسية والاستفتاء السياسي على أساس طريقة واحدة، بل يعتبرون الاستفتاء مكملا للجمعية التأسيسية، فهو حلقة له ويستدلون بالعديد من القرائن التاريخية، فقد يوضع المشروع الدستوري بواسطة جمعية تأسيسية، مثال ذلك دستور 1946، وقد يوضع عن طريق لجنة حكومية، ومثال ذلك الدستور المصري الصادر سنة 1956، أو دستور الجمهورية الخامسة 1958.
1- فوزي أوصديق، مرجع سبق ذكره، ص52.
وأخيرا ما يمكن قوله في هذه المسألة هو وجود اختلاف بين الجمعية التأسيسية والاستفتاء الدستوري، فالأول يتخذ قوته الإلزامية بمجرد صدوره عن الجمعية، فلا يشترط فيه عرضه على الشعب، وهذا فعلا ما حدث سنة 1946 في فرنسا، بحيث الجمعية التأسيسية أقرها الدستور في مايو 1946، وعرضه على الشعب، فرفض الموافقة
عليه مما أدى إلى إنشاء جمعية تأسيسية أخرى لصياغة المشروع من جديد وعرضه على الشعب في أكتوبر 1946 الذي وافق عليه. كما يجب التفرقة بين الاستفتاء الدستوري والاستفتاء السياسي، فقد تنتهج هذه الطريقة لترويض الشعب لقبول الأوضاع السائدة، فهو إقراري (بمعنى إقرار مشروع دستوري تضعه جمعية تأسيسية رغم اختلاف في تكوينها، كما حدث للدساتير الفرنسية (1793-1795-1946)، أو دستور ايرلندا الحرة سنة 1973. وليس كاشفا للإرادة الشعبية، فالشعب في هذا الموطن له دور سلبي، بحيث يستشار شكليا لتبييض وجه النظام الحاكم، كالاستفتاء بشأن إبقاء نابليون قنصلا عاما مدى الحياة 1802 أو استفتاء سنة 1804 بشأن توارث الإمبراطورية في سلالة نابليون(1).
وقد أتبع هذا الدستور في وضع دستورنا لسنة 1976 ودستور ايطاليا لسنة 1948 والعديد من الدساتير الحديثة.كما تعتبر هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من غيرها، إلا أنها لكي تحقق تلك الميزة أهدافها يجب أن يكون الشعب واعيا ومدركا للعمل العظيم الذي يقوم به، ونظرا لصعوبة تحقيق هذه الأمنية فان على السلطة التي تريد مشاركة الشعب فعلا في اتخاذ القرارات الحاسمة أن تتجنب تقديم النصوص المعقدة له بل تقدمها فقط للبرلمان بشرط أن يكون برلمانا وليس هيئة فنية استشارية وتقتصر على تقديم المسائل البسيطة الواضحة على أن تسبقها حملة إعلامية وتنظم مناقشات حول الموضوع حتى يشعر الشعب بأنه شارك فعلا في وضع النص ولم يقتصر على تقديم استشارة(2).
طريقة المعاهدات الدولية : بعض الدساتير يمكن أن ترجع في نشأتها إلى معاهدات دولية مثل الدستور البولندي لعام 1815 والدستور الألماني لعام 1871، حيث يكون الدستور مستمدا من معاهدة دولية.













1- فوزي أوصديق، مرجع سبق ذكره، ص53.
2- سعيد بوشعير، مرجع سبق ذكره، ص152.
المبحث الرابع
طرق وضع الدساتير الجزائرية

بعد أن تناولنا في هذه الدراسة أساليب نشأة الدساتير بصفة عامة، يصبح لزاماً أن نقدم نبذة موجزة عن تطور الدساتير الجزائرية ونشأته التي بدأت مراحلها عقب انتهاء الاستعمار الفرنسي الغاشم للجزائر، وجلاء قواته عن أراضيها. خلال ثلاثين سنة من الاستقلال عرفت الجزائر حياة دستورية مضطربة بين المشروعية والشرعية ازدادت تأزما بعد الثمانينات، ففكرة إنشاء المجلس الدستوري الجزائري تعود إلى ما بعد الاستقلال مباشرة، حيث تبناها المؤسس الدستوري في أول دستور للجمهورية الجزائرية، وهو الدستور الصادر في 08 سبتمبر 1963 وذلك تأثرا بالنظام القانوني الفرنسي، الذي يتبنى نظام الرقابة على دستورية القوانين عن طريق المجلس الدستوري. أما في الجزائر فقد عرفت دستورين برامج مشحونين بالإيديولوجية الاشتراكية سنة (1963 – 1976) ودستور قانون سنة (1989) وتعديل لهذا الأخير سنة (1996)، ويرجع ذلك إلى تباين الأوضاع السياسية والاقتصادية والقانونية لكل مرحلة من مراحل التجربة الدستورية الجزائرية، وخاصة في الفترة الممتدة بعد أحداث أكتوبر 1989. سنحاول التعرض لكل مرحلة.

1. دستور 08 سبتمبر 1963:
دستور 1963 كان دستور برنامج، أي ذلك الدستور الذي يغلب عليه الطابع الإيديولوجي على الجانب القانوني، ويعرف في الأنظمة الاشتراكية، فالدستور في هذه الحالة يكرس الاشتراكية ويحددها هدفا ينبغي تحقيقه، كما يحدد وسائل تحقيقها ويكرس أيضا هيمنة الحزب الحاكم، ومع ذلك كله فإنه يتناول الجوانب القانونية المتعلقة بتنظيم السلطة كما يبين حقوق وحريات الأفراد ومجالاتها.
1- فوزي أوصديق، مرجع سبق ذكره، ص57.
وضع دستور 1963 كان من اختصاصات المجلس التأسيسي المنشئ بحكم اتفاقية افيان، إلا أن الرئيس "أحمد بن بلة" تملص عن هدا المبدأ بإعطاء الضوء الأخضر للمكتب السياسي في مناقشة وتقويم مشروع دستور في جويلية 1963، وعرضه على المجلس التأسيسي للتصويت عليه، ثم تقديمه للاستفتاء الشعبي في سبتمبر 1963، وإصداره في 08 سبتمبر 1963، فرغم أن المشرع الجزائري أخذ بالطريقة الديمقراطية (الجمعية التأسيسية والاستفتاء) إلا أن هذه الطريقة يشوبها العديد من المخالفات، كمناقشة الدستور على المستوى الحزبي، مما تبعه سلسلة من الاستقالات على مستوى المجلس التأسيسي (فرحات عباس، حسين آيت أحمد...) (1).
بالرجوع إلى دستور 1963 نجد أن المادة 63 منه تنص على مايلي: "يتألف المجلس الدستوري من الرئيس الأول للمحكمة العليا ورئيس الغرفتين المدنية والإدارية في المحكمة العليا وثلاث نواب يعينهم المجلس الوطني الشعبي وعضو يعينه رئيس الجمهورية". ومن المعلوم أن هذا المجلس لم يشكل ليمارس نشاطه، وذلك نظرا لما عرفته الجزائر آنذاك من أحداث وعدم الاستقرار، حيث أن الصراع من أجل السلطة كان على أشده مما لم يسمح بتشكيل هذا المجلس، وما أحداث الانقلاب الذي عرفته الجزائر في 19 جوان 1965 والذي أطلق عليه اسم التصحيح الثوري، حيث جمد الدستور فور استيلاء الثورة على السلطة وحل محله أمر: 10 جويلية 1965، وما ينبغي معرفته من خلال نص المادة السالفة الذكر هو طريقة التشكيل العضوي لهذا المجلس، حيث نلاحظ أنه مزيج بين رجال السياسة ورجال القانون، أي أن المجلس الدستوري الجزائري آنذاك كان ذو طبيعة مختلطة قضائية وسياسية، تضم رجالا تابعين لسلك القضاء وأعضاء آخرين بالتمثيل السياسي.

2. دستور 22 نوفمبر 1976:
حاولت جماعة 19 جوان 1965 تأسيس نظام سياسي مدستر، فأصدرت نصين، إحداهما ذو طابع سياسي إيديولوجي هو "الميثاق الوطني"-أعتبر بمثابة عقد بين الحاكم والمحكومين، إذ تضمن المحاور الكبرى لبناء المجتمع الاشتراكي وحدد الحزب الواحد، ووحدة القيادة السياسية للحزب والدولة- والثاني يعتبر تكريسا قانونيا للأول وهو "الدستور"(1). وضع دستور 1976 جاء بعد إصدار القيادة في الجريدة الرسمية –المرقمة 58 والمؤرخة في 13 جويلية 1965- عزمها على استصدار دستور فتشكلت لجنة حكومية لصياغة نص الدستور وتقديمه للاستفتاء الدستوري يوم 19 نوفمبر 1976، وتمت الموافقة عليه و أصدر في 22 نوفمبر 1976. وكان إقرار الميثاق الوطني سابق له، فقد تم إعداد المشروع التمهيدي على مستوى مجلس الثورة والحكومة، وفتحت المناقشة العامة خلال شهري ماي وجوان.
1- فوزي أوصديق، مرجع سبق ذكره، ص58.
إن الرقابة على دستورية القوانين تعد أهم وسيلة لضمان احترام الدستور، غير أن دستور 1976 لم يعتمد على هذا النظام بالرغم من المطالب العديدة أثناء مناقشته الدستور والميثاق الوطني، وإثرائه في مؤتمرات حزب جبهة التحرير الوطني بشأن إحداث هيئة دستورية تتولى السهر على احترام أحكام الدستور، إلا أن البعض قد رأى عدم إنشاء تلك الهيئة وهذا تجنبا للإكثار من مؤسسات الرقابة حتى يمكن تفادي تداخل اختصاصاتها وعدم فاعليتها، كما أن وجودها قد يؤدي لا محالة إلى عرقلة أعمال السلطة في ذلك الوقت لم يكن يؤخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، وإنما بوحدة السلطة ولذلك فإنشاء مثل هذه الهيئة يحد من حرية المشروع وينازعه في أعماله، كما أن هناك من لا يعترف بوجود هذه الهيئة للاختفاء وراء السلطة الثورية لتبرير تصرفاتهم غير الشرعية وهذا ما يجعل من القانون أداة في يد فئة تستخدمه لتغطية تصرفاتها.

3. دستور 23 فيفري 1989:
بالنسبة لهذا الدستور فإنه لم يكن وليد ظروف عادية، وإنما لتلبية مطالب عديدة جسدتها أحداث أكتوبر التي جاءت كرد فعل لأوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مزرية، أدت فقد أغلبية الشعب الثقة في السلطة ولأجل ذلك وحفاظا على مؤسسات الدولة فقام رئيس الجمهورية بفتح باب الحوار وطرح القضايا الأساسية على الشعب للفصل بكل ديمقراطية كما وعد بالقيام بإصلاحات سياسية ودستورية، ومنها دستور 23 فيفري 1989 الذي كرس مبدأ التعددية الحزبية، واقتصر على ذكر الجوانب القانونية المتعلقة بتنظيم السلطة وتحديد صلاحياتها وتكريس نظام الحريات وحقوق الأفراد، هذا الدستور الذي تبنى فكرة الرقابة بعد أن أهملها الدستور السابق أي 1976 وهو بذلك يتفق مع دستور 1963.
تم الإعلان عن المشروع الدستوري، مما تبعته مناقشات على مستوى الإعلام المكتوب والمرئي، وتحضير العديد من الموائد المستديرة بمشاركة مختلف الاتجاهات (الإسلاميين، الأحرار، الديمقراطيين، أعضاء جبهة التحرير الوطني)، وقد تم إقرار الدستور من خلال استفتاء دستوري يوم 23 فيفري 1989 وكانت النتائج نعم 78.98% ، وهكذا فإن الدستور أقر عن طريق الاستفتاء(1).

4. دستور 28 فيفري 1996:
1- فوزي أوصديق، مرجع سبق ذكره، ص63.
إن هذا الدستور الأخير ما هو إلا نتيجة للظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد و الأوضاع المزرية على كل الأصعدة، خاصة منذ استقالة رئيس الجمهورية السابق وتعطيل المسار الانتخابي وما ترتب عن ذلك من أعمال هددت الأمن العام والاستقرار السياسي والمؤسساتي للبلاد، وهذا مما دفع إلى إنشاء بعض المؤسسات وصفت بالمؤسسات الانتقالية منها المجلس الأعلى للدولة انتهت مهامه بتنظيم ندوة الوفاق الوطني في جانفي 1994. ثم أول انتخابات رئاسية تعددية شهدتها الجزائر، وذلك في 16 أفريل 1995، كما تم إنشاء المجلس الوطني الانتقالي والذي تولى مهام السلطة التشريعية منذ 18 ماي 1994 إلى غاية تنظيم الانتخابات التشريعية في جوان 1997، حيث ضم هذا المجلس ممثلي بعض الأحزاب بالإضافة إلى أغلبية ممثلي الحركة الجمعوية وبعض المنظمات الوطنية والنقابات التي لها ثقل على المستوى الوطني. كما كان هذا الهدف من هذا الدستور سد مجموعة من الثغرات التي تضمنها دستور 1989 وخاصة فيما يخص حالة تزامن شغور منصب رئيس الجمهورية مع حل المجلس الشعبي الوطني كما كان الحال في جانفي 1992. ونظرا للأسباب السالفة الذكر تم اقتراح تعديل الدستور بمشاركة مجموع الطبقة السياسية بمختلف تياراتها وخاصة في مرحلة إعداد الوثيقة المعدلة للدستور التي تمت المصادقة عليها من طرف الأمة في استفتاء 28 نوفمبر 1996. وقد جاء هذا الدستور بعدة تعديلات كإنشاء مجموعة من المؤسسات الدستورية منها مجلس الأمة والمحكمة العليا للدولة، ومجلس الدولة، كما كرس الرقابة الدستورية وذلك من خلال الدور الفعال للمجلس الدستوري، هذا الأخير الذي ارتفع عدد أعضائه إلى تسعة كما جاء في نص المادة 164 من دستور 1996، أما مدة العضوية فلم تتغير أي ست سنوات غير قابلة للتجديد ولا يمكن لأي عضو أن يمارس أية وظيفة أو تكليف آخر.


































خـاتمـة



من هذا العرض الموجز لأساليب نشأة الدساتير يمكننا التعليق عليها بالتالي أن نشأة الدساتير قد تتباين وفقاً للظروف التي يوجد فيها كل دستور، وهذا بالتالي يعتمد على النظام السياسي القائم ونوع الحكم السائد في البلاد. ومن ثم فقد مرت عملية نشأة الدساتير بعدة مراحل: المرحلة الأولى كان الملوك ينفردون بالسلطة التأسيسية من الناحية القانونية وهو ما أطلقنا عليه أسلوب المنحة، المرحلة الثانية وهى المرحلة التي تبرز فيها جهود الشعب عن طريق هيئات تعمل باسمه لحمل الملوك على الاعتراف بحق الشعب في المشاركة في السلطة التأسيسية، وهو ما يعرف بأسلوب التعاقد، المرحلة الثالثة وهى مرحلة إنفراد الشعب بالسلطة التأسيسية وهو أسلوب الجمعية التأسيسية، والذي قد أدى إلى ظهور أسلوب الاستفتاء الدستوري، في الحالات التي لا يباشر فيها الشعب بنفسه السلطة التأسيسية ويوكلها إلى هيئة أو لجنة مختصة، تضع مشروع الدستور الذي لا يتحول إلى دستور إلا بعد موافقة الشعب عليه في الاستفتاء العام. ويجب الأخذ بعين الاعتبار عند البدء في وضع مسودة الدستور تجنب الاعتماد على أسلوب أو اصطلاحات معينة ومحددة مثل أساليب العقد أو التعاقد أو المنحة، وينبغي أن ينصب جهد اللجنة التأسيسية على دراسة حقائق نشأة الدستور في ضوء الظروف السياسية التي صاحبت نشأته في المجتمع. والثابت فقهاً أن أسلوب الاستفتاء الشعبي لا يكون إلا بشأن موضوع محدد لإقراره، ومثاله الاستفتاء بشأن تغيير شكل نظام الحكم أو الاستفتاء على مشروع الدستور. إذ ينبغي قانوناً أن يكون الانتخاب المباشر من الشعب هو الأداة الشرعية لاختياره واستفتائه فيه بالموافقة أو الرفض.














المـراجـع








þ سعيد بوالشعير، القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة. (الجزء الأول؛ الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 1989م).

þ فوزي أوصديق، الوافي في شرح القانون الدستوري. (الطبعة الأولى، الجزء الثاني؛ الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 1994م).

þ نعمان أحمد الخطيب، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري. (الطبعة الأولى، الإصدار الأول؛ الأردن: مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1999م).

þ سعيد عبد الرحمن. "نحو وعي دستوري". (ليبيا: الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا،
www.nfsl-libya.com/Articles/1043.htm، 2004م).

þ فاطمة سعيد. ”أساليب نشأة الدساتير“.(البحرين: منتديات البحرين، http://forum.montadayat.org، 2002م).

þ محمد سعد أبو عامود. ”الدستور والمفاهيم المرتبطة به“.(مصر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراطيجية، www.ahram.org.eg، 2005م).

þ "نشأة المجلس الدستوري الجزائري" . (بحث مقدم في اختصاص (حقوق) علوم قانونية ، http://www.saagiya.4t.com، 2005م).
اساس مقولة ان (الرحمة فوق القانون)
فارس حامد عبد الكريم
ماجستير قانون / بغداد
يتردد على السنة الناس قول لطيف ومحبب،وخاصة عندما يجدون انفسهم في موقف صعب امام القضاء سواء عن دين او تهمة، او كانوا مجرد مشاهدين، مفاده ان (الرحمة فوق القانون )، وهم محقين في ذلك فالرحمة يجب ان تكون فوق القانون كلما كان ذلك ممكنا، لان غاية القانون هي العدالة، والعدالة،كمفهوم انساني واخلاقي حسب الاصل، لايمكن ان تتنكر للرحمة وللقيم الخلقية العامة السائدة حتى في اشد الاحوال والظروف قسوة، وقد يكون مصدر هذه الرحمة هو المشرع ذاته عندما يتبنى في تشريعه العقابي ظروفا واعذارا مخففة للحكم او انه يمنح القاضي في تشريعه المدني سلطة تقديرية تمكنه من تقدير ظروف الواقعة القانونية واصدار الحكم الملائم مع روح العدالة، وقد يكون مصدرها القاضي عندما يفصل في نزاع فيجد نفسه امام حالة خاصة تستدعي الرحمة فيفسر القانون على نحو يستهدف فيه العدالة الحقة، كلما كانت القاعدة القانونية غامضة (1) تقبل الاجتهاد في التفسير او انها اتاحت له عدة خيارات للحكم كلها في ميزان الشرعية سواء.ولفهم هذه المقولة على نحو واضح،ينبغي التلميح الى التطور القانوني لهذه الفكرة الجوهرية في عالم القانون والعدالة الحقة عبر التاريخ.
الرحمة فوق القانون مطلب انساني قديم جدا،فقد كانت القوانين القديمة شديدة وقاسية ومجحفة بحقوق الضعفاء ولاتعرف للرحمة طريقا الا في حالات نادرة(2)، واذا كانت القوانين اوالاعراف القديمة تفرض على ابناءها عقوبات قاسية ولاتعترف بالحماية القانونية الا لأفرادها، فأنها في مقابل ذلك لم تعترف للغريب عنها بأية حقوق بل كانت تستحل قتله وتبيح ماله وعرضه، فبين افراد الجماعات المختلفة ( لم يكن الاعتداء على شخص الغير او ماله جريمة، ولايجر على صاحبه وزراً ولا عاراً، بل كان السلب مسلكا شريفا،والاغارة مبعثاً للفخر،والانتقام واجباً تحتمه المروءة ). وكانت القوانين في اغلب الاحيان سرا من الاسرار لايعرفها الا الكهنة والملوك ورجال الحكم، ولم يكن يسمح للعامة بالاطلاع عليها مطلقاً.
وسارت قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م) على هذا النحو من القسوة، فكان من حق الدائن ان يسترق مدينه استيفاءاً لدينه او ان يبيعه في سوق المدينة او ان يقتله،واذا كان مدينا لعدد من الدائين كان بامكانهم،وفقا لتلك القوانين، قتله واقتسام اشلائه، ومن جانب اخر بقي مشهد اعدام المدانين امام الملأ في الشوارع العامة ومن ثم التمثيل بجثثهم امرا مقبولا ولا يجرح المشاعر الى عهد قريب، وكان من حق الاباء بيع ابنائهم او قتلهم بل ان سلطة الاب تجاه عائلته كانت شبه مطلقة وكذلك كانت سلطة الحاكم،وكانت مسألة تعذيب الاسرى وقتلهم كوسيلة للانتقام وشفي الغليل امرا مألوفا ايضا.
وفي اطار القونين الجرمانية كانت المبارزة افضل وسيلة لاثبات الحقوق واستحصالها، ومن ينتصر في المبارزة او يقتل خصمه فهذا يعني انه صاحب الحق الذي لاينازع، وكانت المبارزة في اول الامر تتم بدون ضوابط وغالبا ماتجر الى نزاعات عائلية اوقبلية، وفي تطور لاحق اضحت تتم تحت اشراف القاضي.
ان مثل هذا الوضع المأساوي للقانون لم يلق قبولا لدى المفكرين والفلاسفة القدماء والمحدثين على حد سواء، فتمت مواجهته بافكار قانونية جديدة خلاقة بهدف الحد من قسوة القانون وصرامته،فظهرت للوجود فكرة القانون الطبيعي وتم التمييز بين العدل الشكلي والعدالة الحقة، كما ظهرت فكرة المعايير القانونية كعامل مساعد للتخفيف من صرامة القاعدة القانونية.وهذا يتطلب ان نلقي نظرة على فكرة القانون الطبيعي، ومن ثم التمييز بين فكرتي العدل والعدالة.
اَمن الفلاسفة الاغريق عموما، بوجود نظام عقلاني للكون تحكمه قوانين تسير على نسق واحد، يمكن ادراكها بالبحث العقلاني، تتكشف لذوي العقول النيرة،وبأن هذه القوانين الابدية الخالدة هي معيار صلاحية او فساد اي فعل انساني، ومنها القوانين الوضعية والاحكام القضائية والعلاقات الاجتماعية.
ويعد سقراط اول من حول ايجاد معيار ثابت تقاس به خيرية الافعال او شريتها عندما حاول رد الاحكام الانسانية الى مباديء عامة موضوعية تصدق في كل مكان وزمان، مستمدة من الطبيعة ويمكن الوصول اليها اهتداءاًَ بالعقل، وبحسب وجهة نظر سقراط فان القوانين العادلة انما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة، فكانت حقائق ثابتة مطلقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشتها الاله على قلوب البشر، طاعتها واجبة لانها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة.
ان فكرة القانون الطبيعي تتجسد في ان على العقل البشري ان يتمعن في نظام الكون ومنطق الاشياء وطبيعة الروابط الاجتماعية فيستخلص منها هذا القانون الطبيعي ويصوغ قانونه الوضعي على مثاله، ومثل هذا القانون يكون موضوعيا يحكم الناس على وجه سواء، دون النظر الى ارائهم الخاصة ومصالحهم الذاتية، فالطبيعة وحدها هي التي تنأى بالقانون عن القسوة والضيق والنقص والتغيير وعن هوى الفرد وتحكم المشرع،
وينبغي على القاضي حين يجد نقصاً او قصوراً في التشريع ان يستلهم حكمه من هذه القاعدة الابدية التي تحكم الكون وتضفي بظلالها على الطبيعة الانسانية الصافية.
وهكذا كما توازن قوانين الكون بين الاشياء الضارة والنافعة، والاشياء الوحشية والاليفة، والقحط والوفرة، توازن العدالة الكونية بين العقوبة والرحمة، وعلى البشر ان يحذو حذو الطبيعة.
الا ان انصار الوضعية القانونية الحديثة هاجموا فكرة القانون الطبيعي ونجحوا في اضعافهما فترة معينة هجرها في اثنائها اشد انصارها تحمسا لها.
فقد اعترض عليها بانها نظرية مثالية تؤدي الى الحكم على قانونية القاعدة القانونية طبقا لمعيار غير قانوني، هو الضمير الفردي لكل قاضي مما يؤدي الى اختلاف الاحكام بأختلاف القضاة.
وقيل بأن الاعتقاد ان للطبيعة نظام اجتماعي عادل هو على غرار الفكرة البدائية في الاعتقاد بالارواح، حينما كان الانسان البدائي يعتقد ان للانهار والنجوم والحجارة والنباتات ارواحا استقرت فيها او خلفها، قادرة على حمايته وقادرة على ايذائه، وعلى ذات النسق اعتقد ان الطبيعة تقوم بوظائف تشريعية فتكون هي المشرع الاعلى.
الا ان الفقيه جيني، جاء بعد ذلك ليعلن في اشهر نظرية وضعها حول تفسير القانون الخاص واصفا القانون الطبيعي، بانه القانون الذي لايموت.
وفي اطار تلطيف قواعد القانون تم التمييز بين مفهوم العدل ومفهوم العدالة، ويعود التمييز بين هاتين الفكرتين الجوهريتين الى فلاسفة اليونان القدماء وخاصة ( ارسطو )، وكذلك يميز الفقه القانوني الحديث بين العدل (العدل الشكلي القانوني ) والعدالة ( العدل الجوهري، الانصاف )، وترتبط فكرة العدل بالقاعدة القانونية بينما ترتبط فكرة العدالة بالمعايير القاونية.
يفيد العــدل (( Justice معنى المساواة،وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه، فالمثل يعامل كمثله،وغير المتساويين لايلقون معاملة متساوية، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة،ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الاجراءات كانت عادلة لان احدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون، لافرق بين ام تسرق لأطعام اطفالها الجياع وبين من يسرق لأرضاء ملذاته وشهواته،مثلا،لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه (3).
ولذلك شكك فلاسفة القانون في اعتبار العدل الشكلي وسيلة للحكم العادل بين انسان واخر،لان الطبيعة العامة والمجردة للقاعدة القانونية تعني انه لايمكن ادراك كل حالة فردية بخصوصياتها، ولهذا فان العدل الشكلي بما يحققه من مساواة شكلية قد يضغط على الحالة الفردية فتكون ضحية من ضحايا ذلك العدل الشكلي.
اما العدالـــــــة (Equity ) فتفيد معنى الانصاف، فقد صور ارسطو اساس العدل العام في المساواة الذي توفره القاعدة القانونية، الا انه وضع يده على فكرة المعيار القانوني عندما لاحظ صعوبة تطبيق القاعدة القانونية على ما اسماه الحالات المستعصية،وهي تلك الحالات التي يؤدي تطبيق القاعدة القانونية عليها الى نتائج ظالمة، فنبه الى مصحح لجمود العدل القانوني، الا وهو العدل الخاص،والعدل الخاص يعطيه ارسطو اسما خاصا هو (Equite) اي الانصاف او الملائمة او العدالة.
وتعني (العدالة) في معناها الخاص،ايجاد معاملة خاصة للحالات الفردية الخاصة بالتخفيف من حدة وصرامة عمومية القاعدة القانونية، والعدالة بهذا المعنى، هي معيار لتشذيب عدم التناسق وعدم المساواة وايجاد التوازن والتساوي بغية اصلاح ماهو ظالم وغير معقول حينما يطبق العدل القانوني المجرد.
والعدالة وفقا للمعنى العام لها، تعني الشعور بالانصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف بأسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الانسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.
ويقتصر هدف القانون على تحقيق العدل وليس تحقيق العدالة، فالعدل والعدالة كلاهما يقوم على المساواة بين الناس، الا ان المساواة التي تقوم عليها فكرة العدل هي مساواة مجردة تعتد بالوضع الغالب دون اكتراث بتفاوت الظروف الخاصة بالناس، اما العدالة ( الانصاف ) فتقوم على مساواة واقعية على اساس التماثل في الاحكام المنصرفة للحالات المتماثلة شروطها أو الاشخاص المتشابهة ظروفهم مع مراعاة البواعث الخاصة وتفاصيل الظروف.
وفي هذا اطار اضفاء المرونة على قواعد القانون،ميزفلاسفة القانون بين القاعدة القانونية والمعيار القانوني.
فمن الناحية الفلسفية، يرتكز تطبيق القاعدة القانونية على الذكاء (العقل) بينما ترتكز سلطة التقدير التي تنطوي علىتطبيق المعايير على حسن الادراك (الحدس) (4)، وعلى حد قول برجسون، يناسب الذكاء اكثر ما يناسب الجمادات ( رياضيات، معادلات، منطق...) بينما يناسب حسن الادراك والحدس اكثر مايناسب الافكار الحيوية (الشعر، الادب، الفنون...) فالادراك اكثر مناسبة للحياة.
اذ يتميز الذكاء بقدرته على فهم العامل العام في وضع من الاوضاع وربطه باوضاع سابقة للخروج بنتيجة منطقية، فيقدم لنا الذكاء على هذا النحو معرفة بعموميات صفات الاشياء، اذ هو يجرد موضوعاته من من مضمونها الحي الملموس لكي يحولها الى صيغ وارقام ومعادلات جامدة، وتنطوي هذه القدرة على فقدان القابلية على معرفة الحالات الخاصة معرفة تامة، اذ ان مثل هذه المعرفة يتحكم فيها الاراك (الحدس) لانه ينفذ بنا الى العمق الباطن للاشياء لنعرف بذلك ماهو فريد منها.
ومن حيث الطبيعة تتسم القاعدة القانونية بالتحديد والثبات لانها تنطوي على فرض محدد يتضمن واقعة يفترض انها ستقع في الحياة الاجتماعية، وحل او حكم هو عبارة عن الاثر المترتب على حدوث تلك الواقعة.
اما المعيار فهو موجه عام يضع الخطوط العريضة التي توجه سلوك القاضي ويتيح له سلطة تقديرية واسعة عند اعمال القاعدة القانونية،وعليه فان ليس للمعيار نفس تحديد االقاعدة، اذ يكتفي المشرع في تقريره بالاحالة الى اصل خارج عن نطاق القانون، مثل سلوك الرجل المعتاد، او النظام العام والاداب العامة.
ومن حيث المجال القانوني، فحيث تكون الاجراءات الية وحيث تتغلب دواعي الاستقرار والثبات للمراكز القانونية عن طريق توحيد الحلول فان المشرع يلجأ لاسلوب القاعدة القانونية العامة المجردة التي تطبق، الى حد ما، تطبيقا اليا منطقيا فتعطي حلا موحدا لحالات غير متناهية او كما قيل ( عدالة بالجملة )، ومنها تحديد سن الرشد وحقوق المالك، والحصص الارثية ومدد التقادم،وغيرها، اما اذا كانت دواعي الانصاف هي الغالبة فيلجأ المشرع الى طريقة المعايير، ذلك ان تطبيق المعايير يعتمد على التجربة وينحو نحو تفريد العدالة، وعن طريق مرونة مصطلحاتها وتنوع حلولها فانها تسمح بتلطيف القانون.
ويعبر الفقيه ستاتي عن ذلك بالقول ( ان عمل القاعدة القانونية مثل عمل الالات والمكائن، نموذج صناعي متكرر، فكل صك هو كأي صك اخر، وكل سند ملكية هو كاي سند ملكية اخر، ونجد في توزيع الحصص الارثية تكرارا للاوضاع والظروف منذ ان وجد قانون الارث، اما عمل المعيار فهو مثل عمل الايدي، يد العامل الحاذق، وفي القانون تتطلب بعض الحالات عمل الايدي وليس نتاج المكائن والالات، اذ ان عمل الايدي لاينطوي على تكرار بل على امور فريدة ودقيقة وتكون الاهمية فيها للظروف الخاصة، لانه في اطار السلوك الفردي لم تتماثل حالة اهمال مع حالة اهمال اخرى ولن تتماثل ابدا ).
فاذا اعتبر العدل كتجسيد لقاعدة المساواة الشكلية الصرفة فانه يعبر عن حكم منطقي يقوم على المساواة المجردة، وهذا ما يلائم القاعدة القانونية العامة المجردة، واذا ما طبق بانتظام فانه لايمكن ان يتناقض مع نفسه.
اما العدالة فتناسبها فكرة المعايير لانها لاتعمل بصفتها تعبيرا عن حكم منطقي بل بتشكيل ذاتها في صورة القضية الفردية ونظرا لعدم وجود شكل محدد لها فانها تشبه العمل الاخلاقي الذي هو عفوي وغير محسوب له بعناية ويهدف الى اغاثة شخص يتألم دون اعتبار لقواعد محددة.
ويمكن ان ينظر الى العدل الشكلي كأمر غير عادل اذا ما استجاب لمقتضياته ولكنه يفشل في اتخاذ قراراته بروح العدالة فيكون تجسيدا لظلم فادح ومن هنا لايكفي ان يتفق نظام قانوني مع خصائص العدل الشكلية وان كان هذا القانون يطبق بمساواة وبروح النزاهة، ذلك ان القانون يحتاج ان يكون محتواه عادلا اي ان يعبر عن روح العدالة.
تطبيقات فكرة الرحمة فوق القانون
ان اهم شريعتين سائدتين في عالم اليوم، بالنسبة للقانون الوضعي، هي الشريعة اللاتينية التي استمدت من احكامها القوانين الفرنسية وتبعتها اغلب قوانين الدول العربية ويعتبر القانون الطبيعي هو المصدر الاحتياطي لاحكامها على الاغلب الى جانب قواعد العدالة،والشريعة الانكلوسكسونية التي استمدت منها قوانين انكلترا وامريكا وبعض الدول ومنها السودان خلال فترة من الزمن، وتعتبر قواعد العدالة المصدرالاحتياطي لاحكامها. وتعتبر الشريعة الاسلامية الغراء مصدرا للكثير من احكام القانون المدني والاحوال الشخصية في البلاد الاسلامية.
اخذت فكرة الرحمة فوق القانون تنمو تدريجيا مع تشذيب الاخلاق الانسانية بمرور الزمن والانتقال من مرحلة شبه البداوة الى عصر الاستقرار والزراعة(5)، وفي ظل قانون دراكون اليوناني طالب العامة الكهنة والحكام بنشر القانون، ونشر القانون فعلا وعندها اكتشفوا كم كان قانونهم شديدا وقاسيا ومجحفا بحقوق الضعفاء، ولم تمض عشرون عاما حتى شرع قانون اخر هو قانون صولون(600 ق.م ) للتخفيف من قسوة قانون دراكون، فقد اعترف القانون الجديد بحقوق الابناء وحرم الربا الفاحش وحرم التنفيذ على شخص المدين عند عدم الوفاء بالدين وذلك بمنع بيعه او قتله، وحرم قتل الابناء او بيعهم وقضى بتحرير الابن من السلطة الابوية ببلوغه سناً معينا والغى حصر الارث بالابن الاكبر.
وتدريجياً نفذت الفسلفة اليونانية الى الحياة الرومانية بفضل البريتور( منصب قضائي)،وكان له الفضل في تحرير القانون الروماني من معظم شكلياته، وبذلك انتقل القانون الروماني من مرحلة جموده وحدته وقسوته الى مرحلة جديدة من المرونة والبساطة والحكمة فتحت الطريق امام قواعد جديدة ومبادي مستحدثة ومنهاج جديد في التحليل واحكام قانونية لم يكن للرومان عهد بها من قبل، ويعلق شيشرون على ذلك الاثر بقوله ( لم يكن منشأ الفيض الذي اقبل من بلاد اليونان الى مدينتنا مجراً صغيراً،بل منشؤه نهراً خضماً من الثقافة والعلم والفلسفة )، وهكذا تدريجيا بدأت احكام البريتور تدون فنشأ مايسمى بالقانون القضائي(البريتوري) ليحل تدريجيا محل قانون الالواح الاثني عشر (509 ــ 130) ق.م، فقد كان الاخير قانونا قاسيا شكليا جامدا وكان الحق بموجبه يسقط لمجرد ان المدعي لم يتفوه بعبارات معينة، فقد وضع اصلا ليحكم مجتمعاً صغيراً شبه بدوي يعيش على الزراعة. الا ان البريتور وبمرور الزمن تمكن بعض الشيء وبوسائل معينة من تحرير ذلك القانون من بعض قسوته وجموده وذلك من اجل حماية حق او حماية حالة من حالات الضعف الانساني لايحميها القانون ولأكمال ما يعتريه من نقص ومن هذه الوسائل الاوامر البريتورية والتمكين من الحيازة ورد الشي الى اصله فضلا عن اللجوء الى الحيلة القانونية وهي افتراض القاضي لامر مخالف للواقع للتوصل الى تغيير احكام القانون دون التعرض الى نصوصه، من صور الحيلة القانونية التي لجأ اليها القاضي الروماني، مايعرف بالدعوى البوليكانية، حيث ان قانون الالواح الاثني عشر كان ينص على ان ملكية المبيع لاتنتقل للمشتري الابعد مرور سنة في المنقول وسنتان في العقار، فاذا تعرض المبيع قبل انقضاء هذه المدة للسرقة او الاغتصاب فلا توجد حماية للمشتري لانه لم يعد مالكا بعد، فتدخل البريتور ووفر هذه الدعوى له ومن خلالها يفترض البريتور ان المدة قد مضت، رغم انها لم تمض حقيقة، ومن ثم يحكم له بأنتقال ملكية المبيع بمجرد الشراء.
وذهب الفقهاء الرومان بتأثير الفسلفة الاغريقية الى القول بأن (الافراط في التطبيق الحرفي للقانون اغراق في الظلم ) ومعنى ذلك انه اذا ادى تطبيق القانون حرفيا الى الحرج والعسر والقسوة فيصار الى تطبيقه بشيء من المرونة والرحمة باستيحاء الحكم من روح القانون لا من مفهومه الحرفي.
وكان البريتور يطور احكام القانون من خلال ما يعرف بالمنشور البريتوري الذي يتضمن المباديء والقواعد التي سيتبناها اثناء ممارسته لمنصبه القضائي، وجاء في منشور لبريتور من العصر الذهبي للقانون الروماني وهو العصر العلمي (130ق.م ــ 284م) مانصه ( لن اعتبر صحيحا ماتم تحت الرهبة ) ومعيار الرهبة عند البريتور، هو معيار الشخص الثابت الجنان، اي ان من شأن الرهبة ان تدخل الروع في قلب القوي، فلا يحمي البريتور الجبان.
وفي ظل الشريعة الانكلوسكسونية، كانت المحاكم الملكية تطبق قانون الاحكام العام وتتقيد بالتطبيق الحرفي لنصوصه حتى وان لم يؤد ذلك الى تحقيق العدالة والسبب في ذلك يعود الى ان مصادر هذا القانون وهي العادات والتقاليد والسوابق القضائية، اذ صلحت في ظروف معينة، فقد لاتصلح في ظروف اخرى.
وازاء هذا الوضع شعر الناس بالظلم والاجحاف الذي يرتكب باسم تطبيق القانون واخذوا يرفعون دعاواهم الى الملك مباشرة والذي اخذ يحيلها بدوره الى مجلسه الاستشاري للبت فيها وفقا للقانون العمومي اذا وجد ان ذلك يحقق العدالة والا فانه كان يقضي بما يقتضيه العقل والضمير، وتطور الامر في القرن الرابع عشر الى تشكيل محكمة سميت اولا محكمة الضمير نسبة الى ضمير الملك،ذلك ان السند الفلسفي لمباديء العدالة لدى الانكليز لا يستند على مفهوم القانون الطبيعي بل على اساس اخر هو حق الملك في اقامة العدل بين رعاياه وكان الانكليز يقولون ( ان العـــدالة تسـيل مـن ضميـر الملـك )، وسميت هذه المحكمة بعد ذلك بمحكمة العــدالة.
وكانت محاكم العدالة تستند في احكامها الى ماتمليه اعتبارات الفهم الصحيح للامور وما يراه القاضي اكثر حقا وعدلا ومعقولية بغير مراعاة ضوابط القانون العام.
وادخلت في العصور الحديثة على فكرة القانون الطبيعي التقليدية العديد من التعديلات نأت بها عن التطرف والبستها ثوب المثالية الواقعية، بحيث تحتفظ في ذات الوقت بدورها كموجه مثالي للمشرع والقاضي، ومفاد ذلك ان القانون الطبيعي لايضع قواعد وحلول تفصيلية لمشاكل العلاقات الاجتماعية، انما هو موجه مرن هو اقرب الى دعوة المشرع الى الالتزام بحد ادنى من المثل العليا ولكنها لاتضع على عاتقه قيدا تفصيليا محددا، اما بالنسبة للقاضي فتأثيرها عليه اكثر عمقا ذلك لانه ملزم بالرجوع اليها عندما لاتمده مصادر القانون الاخرى بحل للنزاع المعروض عليه، والمشرع حينما يحيل القاضى الى قواعد القانون الطبيعي او قواعد العدالة انما يلزمه ان يجتهد برأيه حتى يقطع عليه سبيل النكول عن القضاء،لان نكوله يعد ارتكابا لجريمة انكاراً للعدالة، وهذه القواعد تقتضيه ان يصدر اجتهاده عن اعتبارات موضوعية عامة لا عن تفكير ذاتي ضيق،ولذا درجت التشريعات الحديثة على الاحالة الى قواعد القانون الطبيعي او قواعد العدالة او مباديء القانون العامة.
حيث نصت المادة (1) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951النافذ على انه:
(1ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها اوفي فحواها.
2ـ فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مباديء الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قـواعـــد العـــدالة.) بينما احال القانون المدني المصري القاضي الى قواعد القانون الطبيعي، عند فقدان النص.
ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة والقانون الطبيعي،هو السبب في ان كل الانظمة القانونية شعرت بالحاجة الى اصلاح صرامة القانون من خلال اعتماد المعايير القانونية والدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذافيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور( الرحمة فوق القانون ) الذي لايعني الا أن على القاضي ان يطبق القانون بروح العدالة.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(1) : لاتعد الصياغة القانونية الغامضة عيبا تشريعيا دائما، فهي من عوامل تطوير القانون وملائمته مع التطورات المستقبلية الحادثة بعد التشريع، فقد استند القضاء الفرنسي وتبعه القضاء المصري في ذلك الى العديد من المواد القانونية الغامضة فأدخلوا من خلالها الكثير من النظم القانونية الحديثة الى النظام القانوني حتى تلك النظم التي لم تكن موجودة وقت تشريع القانون اصلا مثل نظرية تحمل التبعة ونظام الاثراء بدون سبب التي لم ينص عليهما القانون المدني الفرنسي اصلا، وهكذا فسروا القواعد الغامضة على نحو يساير روح العصر،وجاء على لسان رئيس محكمة النقض الفرنسية (باولو) قوله بمناسبة الاحتفال بالعيد المئوي للقانون المدني الفرنسي في 9 اكتوبر سنة 1904 مخاطبا القضاة ( عندما يكون النص غامضا عندها تنهض شكوك في معناه ومداه عندما يتعارض او يتسع او يضيق بمقابلته مع نص اخر، ارى للقاضي حينئذ اوسع صلاحيات التفسير فعليه عدم ضياع وقته في التحري عما كان عليه تفكير واضع القانون المدني عند تشريع هذه المادة او تلك منذ مئة عام....
وعليه ان يقول بان العدالة والحكمة يقتضيان بتكييف النص بحرية وانسانية تبعا لحقائق ومتطلبات الحياة الحديثة وذلك بالنظر للتغييرات التي جرت في الافكار والاخلاق والمؤسسات وفي الحالة الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا منذ قرن ).
(2) : انتقد البعض قانون حمورابي (1694 ق.م) الرائد بالقول انه تضمن احكاما قاسية جدا في بعض احكامه ووصفوه بالبدائي جدا وانه لم يتضمن مباديء قانونية عامة بل تفاصيلا لحالات واقعية، ولكنها كلمة حق يراد بها باطل،فانه وان تضمن احكاما قاسية الا انه تضمن احكاما متطورة لم تتوصل لها البشرية الى يومنا هذا وما برحت تسعى الى نيلها،من ذلك ما نصت عليه المواد (23،24) من قانون حمورابي من انه ( ان من وقع ضحية السرقة في حالة عدم ضبط الجاني واسترداد المسروقات، يعوض من قبل اهل المدينة والحاكم الذي وقعت السرقة في ارضه، فان كانت نفس قد فقدت اثناء السرقة فعلى المدينة والحاكم ان يعوض اهله ) ونصت المادة (148) منه على انه ( ليس للزوج ان يطلق زوجته المريضة بل عليه ان يعيلها طالما هي على قيد الحياة ولكن له ان يتزوج باخرى ) كل هذا قبل ما يقرب من اربعة الاف سنة، اما المباديء العامة فلا تتولد الا بعد نشوء القانون ولا تسبقه حتما، فما المباديء القانونية العامة الا هي مجموعة قواعد استقرت عليها القوانين خلال عهود طويلة من الزمن فاصبحت ذات طبيعة الزامية ولو لم ينص عليها القانون، مثل مبدأ شخصية العقوبة، ومن ثم لايمكن مطالبة من اوجد القانون وقدمه للبشرية ان يوجده كاملا، فحسبه فضلا انه اوجده.
(3) : ويحضرني مثال واقعي في هذا المجال، حيث كنت حضرت تحقيق مع احد الموظفين الكبار كان قد اتهم برشوة واختلاس اكثر من ملياري دينار عراقي، وبعد ايام من ذلك تم التحقيق عن جريمة رشوة مع احد افراد الشرطة بشأن علبة كولا اشتراها له احد المتهمين اثناء احضاره من مركز الشرطة الى المحكمة فقام احد المواطنين (الحريصين) بالابلاغ عن ذلك.
(4) : الحدس، نوع من المعرفة سابقة للاستنباط العقلي،فهو الادراك المباشر الذي لايحتاج الى استدلال منطقي او استنباط بل يأتي مرة واحدة ومباشرة الى الذهن وبصورة كاملة من اول لمحة (الهام)، والادراك ان وجد لدى الناس جميعا الا ان حسن الادراك يتطلب تجربة من نوع خاص يصعب نقلها او تعليمها او تلقينها للاخرين عن طريق الوصف، وبالذكاء او بالحدس يتميز بعض الناس عن الناس الاخرين.
(5) : ساهمت الزراعة في تطوير الاخلاق الانسانية ومنها الرحمة والرأفة، فقد كانت الاقوام البدوية تفضل السلب والنهب لانها لاتملك الا القليل من الاشياء لتخاف عليه، اما المزارع الذي يشقى في حرث وزرع ارضه فيهمه جدا ان تكون هناك قواعد اخلاقية تحميه وتردع غيره، حتى لا يأتي احد وعلى غفلة منه او بالقوة ليسرق جهد سنته الزراعية.
المراجع العلمية :
ـ على بدوي، مباديء القانون الروماني، القاهرة 1936.
ـ ميشيل فيليه، القانون الروماني، ترجمة وتعليق د. هاشم الحافظ، بغداد، 1974.
ـ جستنيان، مدونة جستنيان في الفقه الروماني، ترجمة عبد العزيز فهمي، 1946.
ـ توفيق حسن فرج، القانون الروماني، بيروت، 1985.
ـ قوانين حمورابي، ترجمة محمود الامين، 1961.
ـ د. ادم وهيب النداوي، ود. هاشم الحافظ، تاريخ القانون 1989.
ـ د. مجيد العنبكي، المدخل الى دراسة النظام القانوني الانكليزي، 1990.
ـ د. صوفي حسن ابو طالب، مباديء تاريخ القانون، 1960.
ـ د. محمود السقا، دراسات فلسفية لنظرية القانون الطبيعي، مجلة مصرالمعاصرة، اكتوبر 1976.
ـ د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانونية، 1976.
ـ د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ط3، 1988.
ـ د. حمدي عبد العال، الاخلاق ومعيارها بين الوضعية والدين،الطبعة الثالثة، 1985.
ـ د. عبد الحي حجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية، الجزء الاول، طبعة سنة 1972.
ـ الاستاذ شاكر ناصر حيدر، واجب تقليل الضرر في القانون الانكليزي، مجلة القانون المقارن، بغداد، العدد
13 السنة التاسعة 1981.
ـ د. محمد هاشم القاسم، اثر الاجتهاد القانوني في تطوير القانون، مجلة القانون السورية، ع7،س19، 1968.
ـ دينيس لويد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1981.

ــ R. Pound, Justice According to Law, 1951.
ــ R. Pound, An Introduction to Philosophy of Law. 1955.
ــ G.W Paton , Jurisprudence.1972.
ــ M.O.Stati , Le standard Juridique , 1927.